الجمعة، 8 مايو 2009

كيف تقبل صلاتي؟!




تأليف
د/عبدالحميد هنداوي
الأستاذ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة















" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)k
Gالمؤمنون: 1-2s
قف وتأمل!
أخي الحبيب!
أيها المصلي!
هل تعلم: أن الرجل ليصلي الصلاة وما يكتب له من صلاته إلا نصف أجرها أو ثلثه أو ربعه أو خمسه...؟!
هل تعلم: أن من الناس من يصلي ولا يكتب له من أجر صلاته إلا سدسها أو سبعها أو ثمنها أو تسعها أو عشرها؟!
هل تعلم: أن من الناس من يصلي ويخرج من صلاته وما صلى، ولا يكتب له من أجر صلاته شيئًا؟!
يقول رسول الله r: "إن الرجل لينصرف، وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها"
وفي حديث الرجل المسيء لصلاته،قال رسول الله r للرجل: "ارجع فصل فإنك لم تصل".
وبعد أخي الحبيب!
هل لك في صلاة مقبولة يحبها الله؟
هل لك في صلاة تنال بها أعلى الدرجات عند الله؟
هل لك في صلاة تكون شفيعة لك عند الله؟
هل لك في صلاة يشفع لك بها رسول الله r؟
تعال ننظر كيف كان يصلي رسول الله r؟
وكيف نؤدي صلاة مقبولة عند الله؟
كيف كان يصلي رسول الله r ؟


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ{ [آل عمران: 102]
}يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا{
[النساء:1]
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا{
[الأحزاب:70-71 ]
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدى محمدr وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
أخي المسلم!
أختي المسلمة!
كيف تقبل صلاتي؟
اعلم أن لقبول الصلاة شروطًا لابد من الإتيان بها لكي تقبل الصلاة، وهذه الشروط هي:
1-تعظيم قدر الصلاة وعدم الاستهانة بها.
2-إقامتها بشروطها وأركانها وواجباتها الظاهرة.
وهذا يقتضي: تعلم شروطها وأركانها وواجباتها، والالتزام بذلك.
3-إقامتها بشروطها وأركانها وواجباتها الباطنة.
وهذا يقتضي:
أ-معرفة أسرارها ومعانيها.
ب-حضور القلب في الأذكار والتلاوة والتفكر في المعاني المشتملة عليها.
ج‍-خشوع القلب، وسكون النفس، وطرد الوساوس.
4-الإخلاص فيها وإحضار النية.
وهذا يقتضي: حسن التوجه إلى الله- قطع الشواغل- اجتناب الرياء.
5-اجتناب محبطات الأعمال.
وهذا يقتضي: ترك الشرك والكفر والنفاق.
وعلى هذه الفصول تدور هذه الرسالة الموجزة، التي نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما فيها، وأن يرزقنا صلاة مقبولة، وأن يجعلها لنا ذخرًا يوم لقائه، إنه سبحانه مولى ذلك، وهو على كل شيء قدير.
وكتب
عبدالحميد هنداوي
الجيزة في 18صفر 1424ه‍



الفصـــــــــل الأول
تعظيم قدر الصلاة وعدم الاستهانة بها
تعظيم قدر الصلاة وعدم الاستهانة بها
أخي الحبيب!
اعلم أن من أهم أسباب قبول الصلاة أن يطلع الله تعالى إلى قلبك فيرى قدر تعظيمك للصلاة، ومحبتك لها، وحرصك عليها.
ولا يتحقق ذلك –أخي المسلم- إلا بأن تحيط علمًا بما ورد في كتاب الله تعالى وسنة نبيه r في أهمية الصلاة وبيان منزلتها عند الله تعالى.
والنصوص التي وردت في منزلة الصلاة وأهميتها كثيرة متنوعة.
فمنها: ما ورد في بيان ثوابها وأجر فاعلها.
-عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله r: "ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويزيدُ في الحسنات؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء في المكاره. وانتظار الصلاة بعد الصلاة. ما منكم من رجل يخرج من بيته فيُصلي مع الإمام ثم يجلس ينتظر الصلاة الأخرى إلا والملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه"([1]).
-عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله r: "لا يزال العبد في صلاة ما كان في مُصلاه ينتظر الصلاة، وتقول الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف أو يُحدث" قلت: ما يُحدِثُ؟ قال: "يفسو، أو يضرط"([2]).
ومنها: ما ورد في بيان تكفيرها لذنوب العبد وسيآته.
-عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: إن رسول الله r قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغشَ الكبائر"([3]).
-عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: كنت عند النبي r، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، قال: ولم يسأله عنه، قال وحضرت الصلاة فصلى مع النبي r فلما قضى النبي r الصلاة قام إليه الرجل. فقال: يا رسول الله! إني أصبت حدًّا فأقم في كتاب الله. قال: "أليس قد صليت معنا؟". قال: نعم. قال: "فإن الله قد غفر لك ذنبك". أو قال: "حدَّك"([4]).
-عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله r يقول: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسًا ما تقول ذلك يُبقى من درنه؟" قالوا: لا يُبقي من درنه شيئًا. قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا"([5]).
ومنها: ما ورد في بيان فرضيتها وأنها من أهم أركان الإسلام الخمسة.
عن عبدالله بن عمر بن الخطاب –رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله r يقول: "إن الإسلام بُني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت"([6]).
عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال: بينما نحن عند رسول الله r ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب. شديد سواد الشعر. لا يُرى عليه أثر السفر. ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي r فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه. وقال: يا محمد،أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله r: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله r، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويُصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان: قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره". قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". قال: فأخبرني عن الساعة. قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل". قال: فأخبرني عن أمارتها. قال: "أن تلد الأمة ربتها. وأن ترى الحفاة العراة، العالة، رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان". قال: ثم انطلق. فلبثت مليًّا. ثم قال لي: "يا عمر، أتدري من السائل؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه جبريل. أتاكم يعلمكم دينكم"([7]).
-عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله r لوفد عبد القيس: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله، هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتعطوا من المغنم الخمس. وأنهاكم عن أربع: لا تشربوا في الدباء والنقير والظروف المزفتة والحنتمة"([8]).
ومنها: ما ورد في بين كفر تاركها.
-عن بُريدة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله r: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"([9]).
وإليك ما ورد في كل ذلك من النصوص، حتى تعلم منزلة الصلاة وقدرها عند الله تعالى فيزداد حرصك عليها والتزامك بها، زادنا الله وإياك حرصًا على الصلاة وحبا لها. آمين.
الفصـــــــــل الثانــــي
إقامة الصلاة بشروطها وأركانها وواجباتها الظاهرة
إقامة الصلاة بشروطها وأركانها وواجباتها الظاهرة
اعلم أخي الحبيب:
أن للصلاة شروطًا وأركانًا وسننًا لابد للعبد أن يأتي بها حتى تحوز صلاته قبول الله تعالى.
قال رسول الله r: "خمس صلوات افترضهن الله –عز وجل، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن، كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل، فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه".
وقال أبوحميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة النبي r، رأيته إذا كبر جعل يده حذاء منكبيه، فإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر (ثنى) ظهره، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار إلى مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين، جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الآخرة، قدم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته.
ومما سبق في الحديثين السابقين تعلم أنه لابد في الصلاة من أمرين:
أولهما: صحة شروطها وأركانها وواجباتها الظاهرة.
ومنها: التطهر لها وإتمام أركانها الظاهرة من القراءة والركوع والسجود...إلخ.
ثانيهما: صحة شروطها وأركانها وأركانها الباطنة.
ومنها: الإقبال على الله تعالى، والخشوع فيها لله سبحانه، والتضرع والإنابة والدعاء والالتجاء إلى الله وسنلقي في هذه الرسالة لمحات من الضوء على هذين الركنين.
أولا: صحة شروطها وأركانها وواجباتها الظاهرة:
1-الطهور لها:
اعلم أن الله تعالى لا يقبل صلاة بغير طهور، ففي الحديث الصحيح عن النبي r: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول".
والطهور يقتضي التطهر من الحدث الأصغر والحدث الأكبر، والحدث الأصغر يقصد به التطهر من كل ما يخرج من السبيلين بإزالة أثر النجاسة بالماء أو بشيء جامد ثم الوضوء.
والحدث الأكبر يقصد به التطهر من الجنابة بالاغتسال.
والجنابة لا تكون إلا بالجماع ولو بغير إنزال، أو بإنزال المني سواء كان بالاحتلام في النوم أو في اليقظة سواء بالاستمناء أو لغلبة الشهوة، فإذا خرج الماء الدافق، وهو ماء أبيض غليظ يخرج متدفقًا عند الرجل، وماء أصفر رقيق عند المرأة، يخرج عند تمام الشهوة وقضاء الوطر سواء في اليقظة أو الاحتلام فقد وجب الغسل، وننبه هنا إلى أنه قد تكون هناك بعض قطرات من ماء لزج خفيف ليس غليظًا كالمني، ويخرج عند اشتداد الشهوة وقبل إتمامها، ويكون قليلا عند الرجل، وكثيرًا عند المرأة، ويسمى هذا الماء بالمذي، ولا يكون متدفقًا ولا كثيرًا عند الرجل، ولا تتم به شهوته. وهذا الماء لا يوجب الاغتسال،ولكن يكفي الضوء منه، بعد غسله من الجسد والثوب، (ويمكن رش الثوب بقليل من الماء دون الحاجة لغسله في هذه الحالة).
2-ستر العورة:
من شروط صحة الصلاة أو من واجباتها المتفق عليها بين العلماء ستر العورة.
وننبه هنا على مخالفات تحدث في هذا الأمر:
أ-لبس الملابس الضيقة (البنطلون) الضيق عند الرجال، والذي قد ينحسر عند الرجل البدين فتبدو عورته أسفل ظهره، فضلا عن أن الملابس الضيقة قد تجسد العور.
ب-لبس الملابس الضيقة عند النساء التي تصف الجسم، أو الشفافة التي تكشفه، أو القصيرة التي ينكشف فيها جزء من القدم، أو جزء من الذراع، أو شيء من الصدر أو غير ذلك.
فكل ذلك يعد من المخالفات العظيمة في أمر عظيم يعده العلماء من شروط صحة الصلاة أو من واجباتها.
3-استقبال القبلة:
وهو من شروط صحة الصلاة ومن أهم واجباتها باتفاق المسلمين.
4-القراءة الصحيحة:
اعلم أن كثيرًا من المصلين لا يصحون قراءة الفاتحة قراءة صحيحة كما ينبغي أن تقرأ، واعلم أن ذلك قد يبطل الصلاة أو يجعلها ناقصة ليست تامة يقول رسول الله r: "أيما صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج" أي ناقصة غير تامة.
لذا لابد أخي الحبيب، وأختي الحبيبة:
أن يحفظ المسلم سورة الفاتحة وقصار السور على الأقل ويصححها تصحيحًا جيدًا حتى تصح صلاته.
5-الاطمئنان في الصلاة، وعدم الإسراع فيها:
لابد للمصلي أن يطمئن في صلاته في كل أركانها في القراءة بأن يتمهل فيها ويقف عند رأس كل آية، ولا يسرع القراءة، وفي الركوع بأن يتمهل وينطق التسبيحات بطمأنينة وتفهم خشوع وتعظيم لله تعالى، وفي القيام من الركوع بألا يسرع إلى السجود قبل أن تعتدل أعضاءه ويعود كل عضو إلى ما كان عليه، وفي السجود بأن يمكن جبهته وأنفه من الأرض ويطمئن في التسبيح ويخشع فيه، وفي الدعاء في السجود، وكذلك في الجلوس بين السجدتين وفي التشهد لابد أن يجلس مطمئنًا خاشعًا متمهلا.
وانظر في ذلك إلى وصية النبي r في حديث المسيء لصلاته حيث يقول له رسول الله r: "إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها".
وقد رأى حذيفة r رجلا يصلي يسرع الركوع والسجود والجلوس فقال له "ما صليت ولو مت.. مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا r".
وفي رواية قال: "لو مت..مت على غير سنة محمد r".
6-متابعة النبي r في كل أفعاله في الصلاة، والاقتداء به في ذلك لقوله r: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وإليك أخي المسلم، وأختي المسلمة موجز صفة صلاة النبي r من التكبير إلى التسليم مثبتة بالأحاديث الصحيحة لتعرف صلاة النبي r كأنك تنظر إليها حتى تقتدي به r في صلاتك.
"1-التكبير:
وكان r إذا كبر طأطأ رأسه، ورمى ببصره إلى الأرض، وكان ينهى عن رفع البصر إلى السماء، وقال: "إذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت، وقال عن الالتفات: "إنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد"([10]).
2-وضع اليمنى على اليسرى:
فقد كان r يضع اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد([11]) وأمر بذلك أصحابه، وكان أحيانا يقبض باليمنى على اليسرى وكان يضعهما على الصدر، ولا يخفى أن هيئة اليدين هذه، تمنعها من العبث، وتوحي بحالة من الإخبات والمسكنة والخضوع لله رب العالمين.
3-دعاء الاستفتاح:
ومن أدعيته في الفرض: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد"([12]).
وهناك أدعية أخرى يقرأ هذا مرة وهذا مرة كل ذلك بتذلل وخشوع وأدب.
4-الاستعاذة والبسملة:
كان r يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه"([13]).
ثم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولا يجهر بها([14]).
5-قراءة الفاتحة والسورة:
يقرأهما بترتيل وصوت حسن، فقد كان النبي r يرتل القرآن ترتيلا –كما أمره الله- لا هدا ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفًا حرفا([15]). وكان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها([16]).
وكان يقرأ سورة الفاتحة –وهي سبع آيات- قدر ما يقرأ غيره خمس عشرة آية للتأني الذي يقرأها به.
وتأمل قوله: "قراءة مفسرة حرفا حرفا"، تفهم حد الاعتدال عند القراءة فإن العجلة تذهب بمخارج الحروف فيدخل بعضها في بعض، وعلم التجويد يحفظ اللسان من أنواع اللحن عند قراءة القرآن فتعلمه ضروري لخشوع القراءة واعتدالها وهو علم يُتلقى عن الشيوخ، فإذا تيسر للمسلم دراسته بالسند على أحد علمائه فذاك أسلم وأضمن، وإن لم يتيسر له ذلك فلينصت إلى الأئمة المقرئين أو إلى تسجيلاتهم حتى يتدرب على مثل قراءة أحدهم.
وقد جاء في حديثين الإشارة إلى أمرين مهمين عند القراءة: الأول: مد آخر الآيات، والثاني: الوقوف عند رؤوس الآي.
فقد روى البخاري عن قتادة قال: سألت أنسا عن قراءة رسول الله r فقال: كان يمد مدا، إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد بالرحمن ويمد الرحيم.
والظاهر أنه مد متعادل في نهاية كل آية، فإنه r حريص على التناسب بين أعمال الصلاة، ثم إنه في قواعد التجويد مد طبيعي له حركتان في نهاية كل آية. فلا يجعل لبعضها أربعًا أو خمسًا أو ثلاثًا بل يساوي بينها في المد.
وقد رأيت بعض المقرئين لا يميزون في صلاتهم آخر آية يقرؤونها بمد زائد بل يجعلون مدها كمدود الآيات الأخرى، ولم أقف على ما يفيد تخصيص آخر آية تقرأ بمد زائد كما لم أقف على ما يفيد تخصيص آخر سجدة بطول زائد أيضًا.
وروى أبوداود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي أنه r كان يقرأ الفاتحة ويقطعها آية آية، بسم الله الرحمن الرحيم [ثم يقف ثم يقول] الحمد لله رب العالمين [ثم يقف ثم يقول] الرحمن الرحيم[ثم يقف ثم يقول] مالك يوم الدين، وهكذا إلى آخر السورة، وكذلك كانت قراءته كلها، يقف على رؤوس الآي، ولا يصلها بما بعدها، وكان تارة يقرؤها ملك يوم الدين.
وعلى المصلى ألا يتعمق ويتكلف في شكل القراءة حتى يصرفه ذلك عن متابعة المعنى، كما عليه ألا يلعب بالقراءة ويتخذ الصلاة مجالا للتدريب وتغيير الأصوات فإن ذلك يضاد مقصود القراءة وإنما تكون قراءته حسنة صادقة لا تكلف فيها ولا لحن ولا رياء.
6-الركوع:
وكان r إذا فرغ من القراءة سكت سكتة([17])، ثم رفع يديه على نحو ما يفعل في تكبيرة الإحرام وكبر وركع([18])، وكان r يضع كفيه على ركبتيه كأنه قابض عليهما([19])، وكان يفرج بين أصابعه([20])، وكان ينحي مرفقيه عن جنبيه([21])، وإذا ركع بسط ظهره وسواه([22]) حتى لو صب عليه الماء لاستقر([23]) وكان لا يصب رأسه ولا يقنع([24]) ولكن بين ذلك([25])، أي كما يكون ظهره يكون رأسه في استقامة واحدة.
وكان r يطمئن في ركوعه وكان يقول: "أتموا الركوع والسجود فوالذي نفسي بيده إني أراكم من بعد ظهري (أي من ورائي) إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم([26]).
وكان يقول: أسوء الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قالوا: يا رسول الله وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها وسجودها([27]).
7-أذكار الركوع:
منها: "سبحان ربي العظيم" ثلاثًا([28]) وكان أحيانًا يكررها أكثر.
ومنها: "سبحان ربي العظيم وبحمده" ثلاثًا([29]).
ومنها: "اللهم لك ركعت وبك آمنت، ولك أسلمت [أنت ربي] خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي [وفي رواية: وعظامي] وعصبي [وما استقلت به قدمي لله رب العالمين]([30]).
وقد نهى r عن قراءة القرآن في الركوع والسجود فقال: "ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب –عز وجل- وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم"([31]).
8-الرفع من الركوع:
وكان r يرفع صلبه من الركوع قائلا: "سمع الله لمن حمده وكان يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد([32])، وكان يرفع يديه عند هذا الاعتدال وقد يزيد على قوله ربنا ولك الحمد: ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد(2)، أو يزيد: "حمدًا كثيرًا طيبا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى"، وهذا هو الذكر الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام- وقد قاله أحد المصلين خلفه: "لقد رأيت بضعًا وثلاثين ملكًا يتبدرونها أيهم يكتبها الأول([33]).
وكان يقوم من الركوع حتى يقول القائل قد نسي من طول ما يقوم([34]).
وكان يجعل ركوعه وقيامه بعد الركوع وسجوده وجلسته بين السجدتين قريبا من السواء([35]).
فتأمل قوله: "قريبا من السواء"، أي أنه إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين وإذا توسط في القيام أو خفف فعل مثل ذلك في سائر صلاته، لكن كثيرًا من المصلين يخففون الركوع والسجود جدا وكأنها معبر إلى القيام فحسب، فتبدو صلاتهم غير متعادلة.
إن هذه الملاحظة التي سُجلت عن تناسق صلاته –عليه الصلاة والسلام- تبين أن أي ركن من أركان الصلاة ليس بأقل من غيره في أحقيته بالاعتدال والاطمئنان ولذلك ترى في حديث المسيء صلاته تكرار الأمر بالاطمئنان في كل ركن:
"اركع حتى تطمئن راكعًا وارفع حتى تطمئن قائمًا واسجد حتى تطمئن ساجدًا وارفع حتى تطمئن جالسًا.. ثم افعل ذلك في صلاتك كلها.
وهذا التعادل سمة عامة لصلاته –عليه الصلاة والسلام، تبدو من وجوه كثيرة منها غير ما ذكر –قراءته الفاتحة والسورة في الأوليين من الرباعية والثلاثية والاقتصار على الفاتحة في الأخريين([36])، ومنها قراءته في الركعة الثانية بسورة أقصر من سورة الركعة الأولى وهكذا. كما يبدو التعادل في صلاته –عليه الصلاة والسلام- من جهة الهيئة التي يكون عليها في القيام والركوع والسجود. فإذا قام للقراءة قام مستقيمًا لا يتحرك منه سوى شفتيه، وإذا ركع كانت يداه على ركبتيه في امتداد كامل وكان ظهره ورأسه في استقامة واحدة، وإذا سجد كانت هيئة سجوده الموصوفة قبل في غاية الاعتدال والاستواء.
فهذه معاني ثلاثة للاعتدال أو الخشوع الظاهر:
أولا: استقامة الجسم واعتداله في هيئات القيام والركوع والسجود والجلوس.
ثانيًا: السكون مدة مكثه في كل ركن.
ثالثًا: التأني عند الانتقال منه إلى غيره.
9-السجود:
كان r يكبر ويهوي ساجدًا([37])، وأمر المسيء صلاته أن يكبر ويسجد حتى تطمئن مفاصله([38])، وكان أحيانًا يرفع يديه إذا سجد (روي ذلك عن عشرة من الصحابة)، وكان يبدأ في سجوده باليدين فيضعهما على الأرض ثم ركبتيه، وكان يأمر بذلك فيقول: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يده قبل ركبتيه([39]).
وكان r يسجد على سبعة أعضاء([40]): الكفان (ويجعلهما حذو منكبيه وأحيانًا أذنيه ويضم أصابعهما ويوجههما نحو القبلة، ولا يفترش ذارعيه بل يرفعهما ويباعدهما عن جنبيه حتى يبدو بياض إبطيه من ورائه، وحتى لو أن حملا أراد أن يمر تحت يديه مر، والركبتان والقدمان (ويستقبل بأطراف أصابعهما القبلة ويرص عقبيه وينصب رجليه)، والجبهة والأنف. وكان يقول: إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه([41]).
وكان يقول أيضًا: اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب([42]).
10-أذكار السجود:
كان r يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا([43]) ويكررها أحيانًا أكثر من ذلك. وهناك أدعية أخرى([44])، وللمصلي أن يدعو بما شاء ففي الحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء فيه"([45]).
11-الرفع من السجود:
وكان r يرفع رأسه من السجود مكبرا([46])، حتى يستوي قاعدًا، وكان يقعد على رجله اليسرى([47])، وينصب اليمنى([48]) مستقبلا بأصابعها القبلة([49]) وكان يطمئن في رفعه من السجود حتى يرجع كل عظم إلى موضعه([50])، وأمر بذلك المسيء صلاته، وكان يطيل هذه الجلسة حتى تكون قريبا من سجدته([51]) وأحيانًا يمكث حتى يقول القائل قد نسي([52]).
وكان يقول في هذا الجلوس: "اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني([53]) وتارة يقول: "رب اغفر لي رب اغفر لي"([54]).
ثم يسجد السجدة الثانية ويفعل مثل ما فعل في الأولى.
12-جلسة الاستراحة:
كان r يستوي قاعدًا على رجله اليسرى معتدلا حتى يرجع كل عظم إلى موضعه([55]). وكان ينهض معتمدًا على الأرض إلى الركعة الثانية([56])، وكان يعجن في صلاته يعتمد على يديه إذا قام([57])، وكان يفعل مثل ما فعل في الأولى غير أنه يجعل الثانية أقصر.
13-التشهد والسلام:
كان r يجلس للتشهد بعد الفراغ من الثانية، فإن كانت الصلاة ركعتين –كالصبح- جلس مفترشًا([58])، كما يجلس بين السجدتين، وكذا يجلس في التشهد الأول([59]) من الثلاثية والرباعية، وإن كان التشهد الأخير جلس متوركًا([60]).
وكان يضع كفه اليمنى على فخذه، وفي رواية ركبته اليمنى، ووضع كفه اليسرى على فخذه، وفي روايته: ركبته اليسرى([61])، وكان يضع حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى([62]) (أي نهاية المرفق فلا يرفعه عن جنبه.
وكان يبسط كفه اليسرى على ركبته اليسرى، ويقبض أصابع كفه اليمنى كلها ويشير بأصبعه التي تلي الإبهام إلى القبلة، ويرمي ببصره إليها([63])، وكان إذا أشار بأصبعه وضع إبهامه على أصبعه الوسطى([64])، وتارة كان يحلق بها حلقة([65])، وكان يحرك أصبعه يدعو بها([66]).
وكان يتشهد ويصلي على نفسه ويدعو ثم يسلم يقول: السلام عليكم ورحمه الله عن يمينه حتى يُرى بياض خده ويقول مثل ذلك عن يساره([67]).
وكان أحيانًا يزيد في التسليمة الأولى: وبركاته([68])، ونهى عن الإشارة باليد عند السلام بل يضع يده على فخذه ويسلم.
وقد وردت صيغ للتشهد([69]) منها تشهد ابن مسعود قال: "علمني رسول الله r التشهد وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله [وهو بين ظهرانينا، فلما قبض قلنا: السلام على النبي]([70]).
وورد في الصلاة عليه بعد التشهد صيغ هذه إحداها:
"اللهم صلي على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"([71]).
وكان r يقول:
"إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليستعذ بالله من أربع [يقول اللهم إني أعوذ بك] من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر [فتنة] المسيح الدجال [ثم يدعو لنفسه بما بدا له]([72]).
وكما r يدعو به في تشهده([73]) وكان يعلمه الصحابة كما يعلمهم السورة من القرآن"([74])([75]).

الفصـــــــل الثالث
أركان الصلاة وشروطها وواجباتها الباطنة
ويشتمل على:
1-معرفة أسرارها ومعانيها.
2-حضور القلب في الأذكار والتلاوة والتفكر في المعاني المشتملة عليها.
3-خشوع القلب، وسكون النفس، وطرد الوساوس.
أركان الصلاة وشروطها وواجباتها الباطنة
اعلم أخي الحبيب!
أن من أهم أسباب قبول الصلاة أن تحقق أركانها وشروطها وواجباتها الباطنة؛ وهذا هو الفقه الحقيقي للصلاة الذي جهله كثير من الناس في هذه الأيام.
وذلك أن أغلب الناس قد وقف في معرفة أحكام الصلاة عند معرفة ما يجب لها من أحكام الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة ومعرفة ما ينبغي لها من القيام والقعود ونحو ذلك، وجهل ما هو أهم من ذلك كله، وهو المقصود من هذه الحركات والأفعال، ألا وهو تحقيق طهارة الباطنة وإصلاحه وذلك بمعرفة أسرار الصلاة ومعانيها وبحضور القلب الأذكار والتلاوة والتفكر في معاني تلك الأذكار، ومعاني ما يتلى من الآيات، مع خشوع القلب، وسكون النفس، وطرد الوساوس.
وهذا فقه عظيم ينبغي على المصلي أن يهتم بمعرفته وتحصيله حتى يحصل له مقصود الصلاة، وحتى تأتي الصلاة بأثرها وفائدتها في إصلاح نفسه، ونهيه عن اجتناب الفواحش كما قال تعالى:}وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ{[الروم:45].
الركن الأول:
معرفة أسرار الصلاة ومعانيها
اعلم أخي الحبيب!
أن للصلاة أسرارًا ومعاني قد تخفى على كثير من الناس؛ فإن أكثر الناس لا يرى الصلاة إلا تكليفًا وثقلا، ويرى أنه إذا أداها فكأنما زاح جبلا فوق ظهره.
وهذا وإن كان يدل على اهتمام المصلى بصلاته؛ فإن لا يدل على محبته لها، ومعرفة أسرارها ومعانيها، وأنها حياة للأرواح، وقبلة للقلوب، ونزهة للنفس، ومعراج الروح إلى خطيرة القدس، وحضرة الرب، ومناجاة الملك العلام.
أخي الحبيب!
تعال نتأمل أسرار الصلاة ومقاصدها منذ اللحظة الأولى.
منذ النداء والدعوة إليها بهذا النداء العلوي الجليل: الله أكبر الله أكبر إن لهذا النداء معنى عظيمًا قلما فقهه كثير من الناس.
إن معناه أن الله تعالى أكبر من كل شيء.
وينبغي أن يكون كذلك في نفسك.
ينبغي أن يكون الله تعالى أكبر لديك من عملك ومالك وتجارتك وأهلك وولدك!
ينبغي أن يكون أحب إليك من كل شيء، من الدنيا وما فيها وقد كان هذه خلق النبي r، حيث تروي عائشة أن الله كان إذا سمع النداء، ذهب إلى الصلاة وكأنه لا يعرفنا.
هكذا ينبغي أن يفعل المسلم إذا سمع النداء هرع إلى الصلاة في المسجد.
يترك المال والزوجة والأهل والولد والمصنع والمتجر، ولسان حاله ومقاله يقول: الله أكبر. الله أكبر من ذلك كله، لا خبر في شيء يشغل عن الله وعن الصلاة.
وإذا سمع: أشهد ألا إله إلا الله، علم أن من يشهد أنه لا معبود بحق إلا الله فعليه أن يسعى لعبادته.
وإذا سمع أشهد أن محمد رسول الله، علم أن من يشهد برسالة محمد r وجب عليه أن يطيعه فيما أمر به من إقامة الصلاة وإذا سمع حي على الصلاة، حي على الفلاح. أي أقبل على الصلاة وعلى الفلاح، ما كان له أن يتخلف عن الصلاة التي فيها فلاحه ونجاته في الدنيا والآخرة بل كان عليه أن يسعى إليها مستعينًا بحول الله وقوته وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
(الله أكبر كلمة السر لدخول معسكر الإيمان)
إذا قال العبد: الله أكبر علم أنها كلمة يحرم بها في الصلاة أي يحرم بها على نفسه الدنيا، حيث يفارق معسكر الدنيا إلى معسكر الآخرة، وكلمة السر التي يدخل بها ذلك المعسكر الإيمان هي كلمة (الله أكبر) أي الله أكبر من كل شيء فيترك بقلبه كل شيء، ويقبل على الله وحده.
وإذا قال العبد (بسم الله الرحمن الرحيم) فليعلم أنه يستأذن بهذه الكلمة في الدخول على ملك الملوك سبحانه أرحم الراحمين.
فإذا قالها فليعلم أنه قد فتح له باب ملك الملوك، وأنه في حضرة أرحم الراحمين فعليه أن يقبل عليه بالثناء والتحية، فحينئذ يخاطب ربه قائلا:
}الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ {ثم عليه بعد ذلك أن يعاهده على العبادة والاستعانة به وحده وإفراده بالعبادة بقوله: }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{ثم بعد ذلك يسأله الهداية والتوفيق والسداد في أموره كلها بقوله: } اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ{([76]).
ثم على العبد أن يقرأ ما يفتح الله به عليه من القرآن، أو يستمع إلى قراءة الإمام وهو يستشعر أنه جندي من جنود الله تعالى مجتمع مع كتيبة الرحمن، وهو واقفون بين يدي الملك يتلقون أوامره فعليه أن يصغي إلى القراءة بآذان صاغية، فلن يجد إلا خير يؤمر به أو شرا ينهى عنه، كما قال ابن مسعود –رضي الله عنه: "إذا قال الله تعالى: }يأيها الَّذِينَ آمَنُوا{ فارعها سمعك؛ فإ،ها خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه".
فإذا ركع العبد فعليه أن يدرك أنخ خر راكعًا متواضعًا خاشعًا لله تعالى معظمًا إياه، ولذلك قال النبي r: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" ولذا فهو يقول فيه "سبحان ربي العظيم".
فالركوع تواضع من العبد فيه تعظيم لمن يستحق التواضع والانخفاض لعظمته سبحانه فإذا سجد العبد فليعلم أن ذلك هو تمام التعبد والتذلل لله تعالى وهو إشعار للعبد بعبوديته، وأنه عبدلله تعالى متذلل خاضع له، فلا يجوز له أن يخرج على أمره ونهيه بل عليه الامتثال والاستجابة بلا تردد ولا مناقشة فهو عبد متذلل لله تعالى.
وإذا جلس العبد في صلاته فهو يجلس في تحية لله تعالى وتحية الملك إنما تكون بالتواضع والانحناء والجلوس بين يديه إقرار بعظمته وعلويته ومكانته سبحانه.


ثانيًا: حضور القلب في الأذكار والتلاوة
اعلم أخي الحبيب:
(أن الله تعالى لا يستجيب دعاء قلب غافل لاءه)
هكذا قال رسول الله r، والصلاة كلها دعاء لله تعالى، والصلاة في اللغة أيضًا معناها الدعاء؛ فإذا كانت الصلاة دعاء، فإن هذا الدعاء لا يستجاب إلا بحضور القلب وتفكره فيما يدعو به المرء؛ وإلا كان دعاؤه بلا فائدة.
فإذا قال العبد: الله أكبر تفكر في معنى هذه الكلمة كما بيناه سابقًا، من أن الله تعالى أكبر من كل شيء.
وإذا قال: (سبحان ربي العظيم) علم معنى هذه الكلمة وأن التسبيح هو تنزيه الرب عن أن يكون له شبيه أو نظير فهو سبحانه }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {.
وإذا قال: "سبحان ربي الأعلى" علم معنى هذه الكلمة وأنها تنزيه الرب الأعلى المهيمن على عباده والقاهر لهم، فليخش سلطان سبحنانه وقهره وجبروته، وليظهر تذلله لعظمته، وليلجأ إليه قاصدًا بابه وطالبا عفوه وعونه وكرمه.
وهكذا في كل ذكر له أو تلاوة عليه أن يكون حاضر القلب حتى ينتفع بصلاته ودعواته وأذكاره وتلاوته.
ثالثًا: خشوع القلب وسكون النفس، وطرد الوساوس
اعلم أخي الحبيب!
أن حقيقة الخشوع في اللغة هي السكون والهمود، قال تعالى: }وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ{([77]).
فخشوع الأرض: سكونها وعدم حركتها بالنبات.
وكذلك خشوع القلب وخشوع الجوارح هو سكون القلب وسكون الجوارح وعدم تحركها.
وسكون الجوارح أمر لابد منه لخشوع القلب، فلا يخشع من يعبث في لحيته وثوبه وعمامته، أو من يعبث بالحصى أو الحصير أو السجاد بالمسجد ونحو ذلك فهذا عابث لاء وليس مصليا لله تعالى.
وقد روي أن عمر –رضي الله عنه- رأى رجلا يبعث بلحيته في صلاته فقال: "لو خشع قلب هذه لخشعت جوارحه".
وإذا كان خشوع الجسد بسكونه وعدم تحركه؛ فإن خشوع القلب يكون بسكونه وعدم تحركه أيضا.
وتحرك القلب إنما هو تحركه بالخواطر والأفكار والخيالات هنا وهناك، فيتحرك تارة بالتفكر في العمل، أو في اللهو، أو في الزوجة أو البيت والأولاد ونحو ذلك فتلك هو حركة القلب.
وخشوع القلب هو سكونه وعدم تحركه وثباته على التفكر في صلاته وإقباله على الله تعالى وعدم تحوله عن الاتجاه إليه وقصد رحمته، ومهابة عظمته.
وفي نهاية هذا الفصل أخي الحبيب: أورد لك كلامًا مهمًا في هذا المعنى لصاحب مختصر منهاج القاصدين رحمه الله تعالى فإنه كلام مهم نفيس، ثم أورد لك بعد ذلك جملة من الأحاديث والآثار الواردة عن السلف –رضوان الله عليهم- في الخشوع في الصلاة وأحوالهم فيها لعلنا نقتدي بأفعالهم الكريمة.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي –رحمه الله- في مختصر المنهاج:
فصل في فضائل الصلاة:
وأما الصلاة فإنها عماد الدين وغرة الطاعات. وقد ورد في فضائل الصلاة أخبار كثيرة مشهورة، ومن أحسن آدابها الخشوع.
وقد روى عن عثمان بن عفان –رضي الله عنه، عن النبي r أنه قال: "ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله".
وله في حديث أيضًا عن النبي r أنه قال: "من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه".
وكان عبدالله بن الزبير –رضي الله عنهما- إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذع حائط، وصلى يومًا في الحجر فجاء حجر قذافة فذهب ببعض ثوبه فما انفتل.
وقال ميمون بن مهران: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتًا في صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفي المسجد يصلي فما التفت، وكان أهل بيته إذا دخل المنزل سكتوا، فإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا.
وكان علي بن الحسن –رضي الله عنهما- إذا توضأ اصفر لونه، فقيل له: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء، فقال: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟
واعلم: أن للصلاة أركانًا وواجبات وسننًا، وروحها النية والاخلاص والخشوع وحضور القلب، فإن الصلاة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال، ومع عدم حضور القلب لا يحصل المقصود بالأذكار والمناجاة، لأن النطق إذا لم يعرب عما في الضمير كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصل المقصود من الأفعال، لأنه إذا كان المقصود من القيام الخدمة، ومن الركوع والسجود الذل والتعظيم، ولم يكن القلب حاضرًا، لم يحص المقصود، فإن الفعل متى خرج عن مقصوده بقي صورة لا اعتبار بها، قال الله تعالى: }لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ{[الحج:37]. والمقصود أن الواصل إلى الله سبحانه وتعالى هو الوصف الذي استولى على القلب حتى حمل على امتثال الأوامر المطلوبة، فلابد من حضور القلب في الصلاة، ولكن سامح الشارع في غفلة تطرأ، لأن حضور القلب في أولها ينسحب حكمه على باقيها.
والمعاني التي تتم بها حياة الصلاة كثيرة.
المعنى الأول: حضور القلب كما ذكرنا، ومعناه أن يفرغ القلب من غير ما هو ملابس له، وسبب ذلك الهمة، فإنه متى أهمك أمر حضر قلبك ضرورة، فلا علاج لإحضاره إلا صرف الهمة إلى الصلاة، وانصراف الهمة يقوي ويضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا، فمتى رأيت قلبك لا يحضر في الصلاة، فاعلم أن سببه ضعف الإيمان، فاجتهد في تقويته.
والمعنى الثاني: التفهم لمعنى الكلام فإنه أمر وراء حضور القلب، لأنه ربما كان القلب حاضرًا مع اللفظ دون المعنى، فينبغي صرف الذهب إلى إدراك المعنى بدفع الخواطر الشاغلة وقطع موادها، فإن المواد إذا لم تنقطع لم تنصرف الخواطر عنها.
والمواد، إما ظاهرة، وهي ما يشغل السمع والبصر، وإما باطنة وهي أشد كمن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا، فإنه لا ينحصر فكره في فن واحد، ولم يغنه غض البصر، لأن ما وقع في القلب كاف في الاشتغال به.
وعلاج ذلك إن كان من المواد الظاهرة، بقطع ما يشغل السمع والبصر، وهو القرب من القلبة، والنظر إلى موضع سجوده، والاحتراز في الصلاة من المواضع المنقوشة، وأن لا يترك عنده ما يشغل حسه، فإن النبي r لما صلى في انبجانية لها أعلام نزعها وقال: "إنها ألهتني آنفًا عن صلاتي".
وإن كان من المواد الباطنة، فطريق علاجه أن يرد النفس قهرًا إلى ما يقرأ في الصلاة ويشغلها به عن غيره، ويستعد لذلك قبل الدخول في الصلاة، بأن يقضي أشغاله، ويجتهد في تفريغ قلبه، ويجدد على نفسه ذكر الآخرة وخطر القيام بين يدي الله –عز وجل- وهول المطلع، فإن لم تسكن الأفكار بذلك، فليعلم أنه إنما يتفكر فيما أهمه واشتهاه، فليترك تلك الشهوات وليقطع تلك العلائق.
واعلم: أن العلة متى تمكنت لا ينفعها إلا الدواء القوي، والعلة إذا قويت جاذبت المصلي وجاذبها إلى أن تنقضي الصلاة في المجاذبة، ومثل ذلك كمثل رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره، وكانت أصوات العصافير تشوش عليه وفي يده خشبة يطيرها بها، فما يستقر فكره حتى تعود العصافير فيشتغل بها، فقيل له: هذا شيء لا ينقطع، فإن أردت الخلاص فاقطع الشجرة، فكذلك شجرة الشهوة إذا علت وتفرقت أغصانها انجذبت إليها الأفكار كانجذاب العصافير إلى الأشجار والذباب إلى الأقذار، فذهب العمر النفيس في دع ما لا يندفع، وسبب هذه الشهوة التي توجب هذه الأفكار حب الدنيا.
قيل لعامر بن عبدقيس –رحمه الله: هل تحدثك نفسك بشيء من أمور الدنيا في الصلاة؟ فقال: لأن تختلف الأسنة فيَّ أحب إليَّ من أجد هذا.
واعلم: أن قطع حب الدنيا من القلب أمر صعب، وزواله بالكلية عزيز، فليقع الاجتهاد في الممكن منه، والله الموفق المعين.
المعنى الثالث: العظيم لله والهيبة، وذلك يتولد من شيئين: معرفة جلال الله تعالى وعظمته، ومعرفة حقارة النفس وأنها مستعبدة، فيتولد من المعرفتين: الاستكانة، والخشوع.
ومن ذلك الرجاء: فإنه زائد على الخوف، فكم من معظم ملكًا يهابه لخوف سطوته كما يرجو بره.
والمصلي ينبغي أن يكون راجيا بصلاته الثواب، كما يخاف من تقصيره العقاب.
وينبغي للمصي أن يحضر قلبه عند كل شيء من الصلاة، فإذا سمع نداء المؤذن فليمثل النداء للقيامة ويشمر للإجابة، ولينظر ماذا يجيب، وبأي بدن يحضر. وإذا ستر عورته فليعلم أن المراد من ذلك تغطية فضائح بدنه عن الخلق، فليذكر عورات باطنه وفضائح سره التي لا يطع عليها إلا الخالق، وليس لها عنه ساتر، وأنها يكفرها الندم، والحياء، والخوف.
وإذا استقبل القبلة فقد صرف وجهه عن الجهات إلى جهة بيت الله تعالى، فصرف قلبه إلى الله تعالى أولى من ذلك، فكما أنه لا يتوجه إلى جهة البيت إلا بالانصراف عن غيرها، كذلك القلب لا ينصرف إلى الله تعالى إلا بالانصراف عما سواه.
إذا كبرت أيها المصلي، فلا يكذبن قلبك لسانك، لأنه إذا كان في قلبك شيء أكبر من الله تعالى فقد كذبت، فاحذر أن يكون الهوى عندك أكبر بدليل إيثارك موافقته على طاعة الله تعالى.
فإذا استعذت، فاعلم أن الاستعاذة هي لجأ إلى الله سبحانه، فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغوًا، وتفهم معنى ما تتلو، وأحضر التفهم بقلبك عند قولك: }الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {واستحضر لطفه عند قولك: }الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{ وعظمته عند قولك: }مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ {، وكذلك في جميع ما تتلو.
وقد روينا عن زرارة بن أبي أوفى –رضي الله عنه- أنه قرأ في صلاته: }فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ {[المدثر:8] فخر ميتا، وما ذاك إلا لأنه صور تلك الحال فأثرت عنده التلف.
واستشعر في ركوعك التواضع، وفي سجودك زيادة الذل، لأنك وضعت النفس موضعها، ورددت الفرع إلى أصله بالسجود على التراب الذي خُلقت منه وتفهم معنى الأذكار بالذوق.
واعلم: أن أداء الصلاة بهذه الشروط الباطنة سبب لجلاء القلب من الصدأ، وحصول الأنوار فيه التي بها تتلمح عظمة المعبود، وتطلع على أسراره وما يعقلها إلا العالمون.
فأما من هو قائم بصورة الصلاة دون معانيها، فإنه لا يطلع على شيء من ذلك بل ينكر وجوده"([78]).

الفصل الرابع
الإخلاص في الصلاة
ويشتمل على:
1-حسن التوجه إلى الله.
2-قطع الشواغل.
3-اجتناب الرياء.
الإخـــــــلاص في الصـــــــــلاة
اعلم أخي المسلم!
أختي المسلمة!
أن من أهم أسباب قبول الصلاة: الإخلاص فيها لله رب العالمين.
ومعنى هذا الإخلاص أن تكون صلاتك خالصة لله تعالى تؤديها إيمانًا واحتسابا لله تعالى، ترجو بها ثوابه، وتحذر عقابه.
ولهذا نجد أن رسول اله r يشترك هذا الشرط في أحاديث كثيرة مثل قوله: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"([79]).
وقوله: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"([80]).
فلابد أن تخلص وجهك لله تعالى وأن تحسن التوجه بها إلى الله تعالى ترجو ثوابه وتحذر عقابه، وتؤمن بكتابه ورسالة نبيه r وما جاء فيها من الأمر بالصلاة.
كما يدخل في إخلاص الصلاة لله تعالى أمران آخران هما: قطع الشواغل: فمن إخلاص الصلاة لله تعالى ألا تنشغل بشيء غير الله تعالى وغير الصلاة، فلا تفكر فيمال، ولا أهل ولا ولد ولا شيء؛ فهذا من تمام الإخلاص في الصلاة، كما يدخل في الإخلاص في الصلاة أيضًا:
اجتناب الرياء فيها:
فلا يجوز لك أن تؤدي الصلاة لكي يقول عنك الناس إنك مصل، ولا يجوز لك أن تطيل في الصلاة أو في القراءة فيها لكي يقول عنك الناس إنك حافظ القرآن.
ولا أن تظهر الخشوع فيها بطأطأة الظهر والرأس أمام الناس متكلفًا لذلك –إذا لم يكن ذلك من طبيعتك- لكي يقول عنك الناس إنك خاشع.
اعلم أخي الحبيب أنك إن فعلت شيئًا من ذلك لأجل الناس فقد أبطلت صلاتك ورجعت بذم من الله تعالى وسخط وغضب، نعوذ بالله تعالى من ذلك، وعليك إن خفت من الوقوع في شيء من ذلك الرياء، فادع بالدعاء الذي علمنا إياه النبي r لكي نحذر الرياء كله، وذلك أن تقول: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه"([81]).
فاحذر يا أخي الوقوع في الرياء فقد سماه النبي r بالشرك الخفي، وقد علمنا ذلك الدعاء فمن قاله بصدق نجاه الله تعالى من الشرك كله خفيه وظاهره، دقه وجله، نسأل الله تعالى أن يتقبل منا صلاتنا وسائر أعمالنا، وأن ينجينا من الشرك كله دقه وجله؛ إنه سميع قريب مجيب الدعاء. آمين.

الفصل الخامس
اجتناب محبطات الأعمال
ويشتمل على:
1-اجتناب الشرك
2-اجتناب الكفر
3-اجتناب النفاق
اجتناب محبطات الأعمال
اعلم أخي الحبيب!
أختي الحبيبة!
أن هناك محبطات للأعمال تحبط جميع أعمال العبد وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم.
فمن هذه المحبطات:
1-الوقوع في الشرك بالله تعالى:
والدليل على ذلك قوله تعالى لرسوله r: }وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ{([82]).
فليحذر المسلم أن يقع في شرك يحبط علمه ويفسده ويخلده في النار وبئس المصير فمن ذلك:
أن يدعو الأولياء والصالحين أو يتمسح بقبورهم وأضرحتهم، أو يدعوهم من دون الله تعالى لكي يقضوا له حوائجه أو يتوسلوا له فبها عند الله تعالى، أو يكشفوا عنه الضر والبلاء؛ فإنه لا يملك شيئا من ذلك إلا الله تعالى.
ومن فعل ذلك فقد أشرك بالله تعالى وحبط عمله أي بطل وكان من أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير([83]).
ومن ذلك محبة الكافرين، ومحبة شرائعهم وقوانينهم، أو محبة أي شرع أو قانون يخالف شرع الله تعالى، أو الرضا به، فكل ذلك شرك يحبط العمل والإيمان.

2-الوقوع في الكفر بالله تعالى:
مما يحبط ويبطل الصلاة وسائر الأعمال كذلك الوقوع في الكفر الصراح مثل سب دين الله تعالى، أو سب رسوله r، أو سب كتاب الله تعالى، أو سب شرعه، أو الاستهزاء بشيء ولو يسير من شرع الله تعالى؛ أو عدم الرضا به؛ فإن ذلك كله يحبط العمل ويبطله.
فنسأل الله تعالى أن يجنبنا الكفر كله.
3-الوقوع في النفاق القلبي والعقيدة:
ونفاق القلب والعقيدة يتمثل في الشك في الله تعالى، أو الشك في رسوله أو في شيء مما أخبر الله تعالى به أو أخبر به رسوله r من أمور الغيب، أو كراهية الرسول r، أو كراهية شرعه، أو كراهية شيء ولو يسير من هذا الشرع، أو عدم محبته أو عدم الرضا به، أو عدم محبة المؤمنين، وعدم موالاتهم، أو محبة الكافرين وموالاتهم وعدم التبرؤ منهم.
فهذا كله من النفاق الأكبر الذي يحبط العمل ويفسده وهو كالكفر سواء بسواء وهو يبطل الصلاة وسائر الأعمال.
نسأل الله تعالى أن يجنبنا الكفر والشرك والنفاق ومحبطات الأعمال، ونعوذ بالله من الخسران والخذلان، ونسأله سبحانه النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة.
خاتمة مهمة في وجوب شرك المعاصي وكبائر الذنوب.
اعلم أخي الحبيب!
وأختي الحبيبة!
أن من أسباب قبول الصلاة، وتوفيق الله تعالى فيها، أن يترك العبد الذنوب والمعاصي والفواحش مما ظهر منها وما بطن، وأن يترك اللغو وهو كل باطل فإنه يمنع من الخشوع في الصلاة، وإذا ذهب الخشوع فلا خير في الصلاة ولا فلاح فيها.
قال تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ{.
فربط سبحانه بين الخشوع في الصلاة وبين ترك اللغو وهو يشمل كل باطل من الأقوال والأفعال والذنوب والمعاصي القولية والفعلية.
فإذا ترك العبد ذلك كله نوّر الله قلبه، ورزقه الخشوع في صلاته.
واعلم يا عبدالله، واعلمي يا أمة الله!
أن هناك تلازمًا ظاهرا وباطنا بين الصلاة والاستقامة وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن والدليل على ذلك قول الله تعالى: }وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ {.
فاصبر على الصلاة واخشع فيها وأقبل فيها على الله تعالى يطهرك من المعاصي ويجنبك الوقوع فيها.
وتجنب المعاصي وتركها ما استطعت إلى ذلك سبيلا يكن ذلك سبيلك إلى الخشوع في الصلاة وحضور قلبك فيها.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم صلاة مقبولة إنه على كل شيء قدير.

([1])أخرجه مسلم (251) نحوه. وابن خزيمة برقم (357) واللفظ له، والمستدرك (1/191-192).
([2])أخرجه مسلم (649) واللفظ له، وابن خزيمة (360).
([3])أخرجه مسلم (233)، وقوله: "ما لم تغش الكبائر" أي: ما لم تقصد.
([4])أخرجه البخاري (12/6823-فتح) واللفظ له، ومسلم (2765).
([5])أخرجه البخاري (2/528-فتح) واللفظ له، ومسلم (667).
([6])أخرجه البخاري (1/8-فتح)، ومسلم (16) واللفظ له.
([7])أخرجه مسلم (8).
([8])أخرجه البخاري (13/7556-فتح) واللفظ له. ومسلم (17)، ونحوه عند ابن خزيمة (307).
([9])أخرجه الترمذي (5/2621) واللفظ له، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، والنسائي (1/231-232)، والحاكم (1/7) وقال: حديث صحيح الإسناد لا نعرف له علة ووافقه الذهبي. وقال محقق جامع الأصول (5/203-204) وهو حديث صحيح.
([10])أبوداود والنسائي وابن خزيمة بسند صحيح وصححه ابن حبان.
([11])البخاري ومسلم.
([12])رواه البخاري ومسلم.
([13])رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة بسند صحيح وصححه ابن حبان.
([14])رواه البخاري ومسلم.
([15])رواه أبوداود وأحمد بإسناد صحيح.
([16])رواه مالك ومسلم.
([17])رواه أبوداود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (قال ابن القيم: سكتته بقدر ما يرتد إليه نفسه.
([18])رواه البخاري ومسلم.
([19])رواه البخاري وأبوداود.
([20])رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
([21])رواه الترمذي وصححه ابن خزيمة.
([22])والبخاري رواه البيهقي بسند صحيح.
([23])رواه الطبراني في الكبير والصغير وعبدالله بن أحمد في زوائد المسند وابن ماجه.
([24])رواه أبوداود والبخاري في جزء القراءة بسند صحيح (ومعنى لا يقنع: أي لا يرفع رأسه أعلى من ظهره).
([25])رواه مسلم وأبو عوانة.
([26])رواه البخاري ومسلم.
([27])رواه ابن أبي شيبة والطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
([28])رواه أحمد وأبوداود وابن ماجه والدارقطني والطحاوي والبزار والطبراني في الكبير عن سبعة من الصحابة.
([29])رواه أبوداود والدارقطني وأحمد والطبراني والبيهقي (صحيح).
([30])رواه مسلم وأبوعوانة والطحاوي والدارقطني.
([31])رواه مسلم وأبوعوانة.
([32])رواه مسلم وأبوعوانة.
([33])رواه مالك والبخاري وأبوداود.
([34])رواه البخاري ومسلم وأحمد.
([35])رواه البخاري ومسلم.
([36])الغالب منه وقد ثبت قراءة الفاتحة وحدها في سائر الركعات (انظر صفة صلاة النبي للألباني ص(102).
([37])رواه البخاري ومسلم.
([38])رواه أبوداود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
([39])رواه أبوداود وأحمد بسند صحيح.
([40])البخاري ومسلم.
([41])رواه مسلم وأبوعوانة وابن حبان.
([42])رواه البخاري ومسلم وأبوداود وأحمد.
([43])رواه أحمد وأبوداود وابن ماجه والدارقطني والطحاوي والبزار والطبراني في الكبير عن سبعة من الصحابة.
([44])انظرها في صفة صلاة النبي (ص154) وما بعدها ط المكتب الإسلامي.
([45])رواه مسلم وأبوعوانة والبيهقي.
([46])رواه البخاري ومسلم.
([47])رواه البخاري في جزء رفع اليدين وأبوداود بسند صحيح ورواه مسلم وأبوعوانة.
([48])رواه البخاري والبيهقي.
([49])رواه النسائي بسند صحيح.
([50])رواه أبوداود والبيهقي بسند صحيح.
([51])رواه البخاري ومسلم.
([52])رواه البخاري ومسلم.
([53])رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
([54])رواه ابن ماجه بسند صحيح.
([55])رواه البخاري وأبوداود.
([56])رواه البخاري والشافعي.
([57])رواه أبوإسحاق الحربي بسند صالح ومعناه عند البيهقي بسند صحيح.
([58])رواه النسائي بسند صحيح.
([59])رواه البخاري وأبوداود.
([60])رواه البخاري.
([61])رواه مسلم وأبوعوانة.
([62])رواه أبوداود والنسائي بسند صحيح.
([63])رواه مسلم وأبوعوانة وابن خزيمة.
([64])رواه مسلم وأبوعوانة.
([65])رواه أبوداود والنسائي وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان بسند صحيح وصححه ابن الملقن.
([66])رواه أبوداود وأحمد بإسناد صحيح.
([67])رواه أبوداود والنسائي والترمذي وصححه.
([68])رواه أبوداود وابن خزيمة بسند صحيح عبدالحق الإشبيلي في أحكامه وكذا النووي وابن حجر.
([69])انظرها في صفة صلاة النبي ص (172).
([70])رواه البخاري ومسلم.
([71])رواه البخاري.
([72])رواه مسلم وأبوعوانة والنسائي وابن الجارود في المنتفى.
([73])رواه أبوداود وأحمد بسند صحيح.
([74])رواه مسلم وأبوعوانة.
([75])محمد عز الدين توفيق: الخشوع في الصلاة- دار القلم- (27-39).
([76])لنا رسالة في أسرار فاتحة الكتاب ستخرج قريبا، يسر الله إتمامها إن شاء الله تعالى.
([77])فصلت:39.
([78])مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي- علق عليه شعيب الأرنؤوط، وعبدالقادر الأرنؤوط- مكتبة دار التراث- القاهرة- ص(28-32).
([79])أخرجه البخاري في "الإيمان"، باب: قيام ليلة القدر من الإيمان (35)، ومسلم في "صلاة المسافرين"، باب: الترغيب في قيام رمضان (759).
([80])أخرجه البخاري في "فضل ليلة القدر" (2014)، ومسلم في "صلاة المسافرين"، باب: الترغيب في قيام رمضان (760).
([81])أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (716) وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الأدب المفرد" (1551).
([82])سورة الزمر:65-66.
([83])تفصيل ذلك في رسالة لنا في التوحيد يسر الله تعالى إخراجها قريبًا.
قصيدة للدكتور هنداوي نشرت في مجلة أقلام الثقافية
غثاء يدعو للغثيان!

غثاء يتبعه الغثاء
كي يدعو للغثيان
يتماسك .. يتعاظل
كي يبدو في حجم الإنسان
يتنافر .. يتساقط
كي يدخل في طور النسيان
يحمله السيل الجارف للوديان
يتفاخر ..يتباهى
أنا فوق السيل الجارف
أنا أعلو فوق الطوفان
* * *
يستشعر سفل الوادي
يستيقن بالذوبان
يغمره السيل فيغرق ..
فينادي ..
أنا أشجب !!
أنا أش ..
أنا أغـ ..
سبحانك يا طوفان !
أنا صنعة سيلك
أنا دفعة موجك
أنا لست بإنسان
أنا شيء يدعو للغثيان
هدهده السيل وطمأنه ..
أنا لست أبيدك ..
فاليوم أعيدك ..
غثاءً أشبه بالإنسان !!
نموذج من بلاغة القرآن دراسات أسلوبية للدكتور هنداوي نموذج من الجزء الأول من السلسلة في سورة ق
المقصد العام والمقاصد الأساسية
نستطيع أن نحدد المقصد العام لهذه السورة من خلال القراءة الأولى لآياتها حيث تدور جميع هذه الآيات حول مقصد واحد هو:
إثبات البعث:
ويتكون هذا المقصد من عدد من المقاصد الفرعية التي تتلاحم فيما بينها في نسيج واحد للدلالة على هذا المقصد العظيم.
وذلك حيث تبدأ السورة بتقرير البعث والجزاء وتأكيده عن طريق أسلوب القسم في أول السورة، ثم تقرير تعجب الكافرين من نذارة النبي r لهم باليوم الآخر، وإجابتهم عن هذا التعجب إجابة مجملة، مع بيان حقيقة حالهم وما هم فيه من الضلال والاضطراب بسبب تكذيبهم بالحق مع وضوحه وبيانه لهم.
ثم تنتقل الآيات بعد ذلك للرد التفصيلي على حجج المشركين ومزاعمهم الباطلة بذكر الآيات الدالة على قدرة الله تعالى على البعث، ومن ثم تطوف بهم الآيات بالنظر في بناء السماء وزينتها وإحكام صنعتها، والنظر إلى الأرض كيف مدّها الله تعالى وأوسع أرجاءها، وألقى فيها الجبال مثبتات لها، وأنبت فيها من كل زوج بهيج.
وكيف أنزل من السماء ماءً عميم النفع والخير والبركة أنبت به الجنات والحدائق وسائر صنوف الحبوب والنباتات، وكيف أخرج به النخل باسقات لها طلع نضيد، ثم كيف أحيا به الأرض بعد موتها.
وفي ختام هذه الآيات يقرر الحق سبحانه أن البعث إحياء العباد بعد موتهم لا يختلف عن إحياء الأرض بعد موتها، وإخراجهم من الأرض بعد موتهم لا يختلف عن إخراج النبات في شيء.
ثم تنتقل الآيات بعد ذلك إلى ترهيب الكافر من التمادي في غيّه بتكذيب البعث وذلك ببيان حال المكذبين بالبعث من الأمم السابقة، وكيف حلّ بهم الوعيد والعذاب لما كذبوا ما جاءت به الرسل. كما تعمد إلى تخويفه من رقابة الله المطلع على وساوس نفسه، وتكذيبه بالحق الذي فطر الله تعالى النفوس عليه، كما تخوفه كذلك من رقابة الملائكة له وتلقيها لألفاظه.
كما ترهبه الآيات كذلك من سكرة الموت ومباغتته للمرء فلا مفر ولا محيد، كما تخوفه كذلك من أهوال البعث ومواقفه وتصور للمرء حاله وهو محضر في هذه العرصات ومعه سائق وشهيد، حيث يكشف عن عينيه غطاء الغفلة وحجاب الشهوات فيرى الأمور على حقيقتها، وتزيد السورة في عرض مشاهد هذا اليوم وبتصوير حال الكافر فيها مع قرينه الذي أضله واختصامه معه، وقرينه الذي يسوقه ويحضره بين يدي مولاه، وتصور له حاله وقد صدر فيه القضاء الإلهي الذي لا يرد }أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ{ ، وتصور له حال جهنم وقد امتلأت }وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ{، وتستطرد الآيات هنا بذكر حال المتقين وجزائهم ومآلهم، وذلك من باب الترغيب في حسن موعود الله تعالى، وفتح باب الأمل للتوبة والإنابة والرجوع عن اللجاجة في الباطل.
وتكمل الآيات ما بدأته من الترهيب من التكذيب بالبعث ببيان إهلاك المكذبين من قبل وحث العباد على أخذ العظة والذكرى من ذلك.
ثم تنتقل بعد ذلك إلى عرض بعض شبه اليهود والمكذبين بالبعث حيث تعرض شبهة لليهود في ادعائهم أن الله قد خلق السماوات والأرض في ستة أيام فأصابه التعب والإعياء فاستراح في اليوم السابع، وقد عرضت الآيات لهذه الشبهة ودحضتها لأنها قد تكون شبهة يتعلق بها منكرو البعث، ثم هوّنت السورة على النبي r ما يلاقي من التكذيب وما يسمع من هذه اللجاجة ودعته إلى الصبر والتثبت والاستعانة على ذلك بذكر الله وتسبيحه، والتمهل بالكافرين ليوم لا ريب فيه.
ومن ثم تختم السورة بتصوير ذلك اليوم، وتوعد الكافرين بهذا المصير المحتوم، ويأتي هذا المقصد متداخلا مع المقصد السابق فتختم السورة بتصبير النبيr وتثبيته وتسليته بأن الله تعالى يعلم ما يقولون، وأن النبي r ما عليه إلا البلاغ لمن يخاف وعيد الله تعالى.
ومن ثم تتلاحم آيات السورة الكريمة للدلالة على المقصد العام وهو (إثبات البعث والإيمان باليوم الآخر والاستعداد له) وذلك من خلال هذه المقاصد السابقة.
ويمكننا أن نوجز هنا مقاصد السورة الكريمة في النقاط التالية:
1-إثبات البعث وتكذيب الكافرين به.
2-دلائل قدرة الله تعالى على بعث الخلائق.
3-التدليل على البعث بوسائل الترهيب والترغيب والأدلة العقلية المنطقية.
4-تثبيت النبي r وتسليته عما يلاقي من تكذيب الكافرين ولجاجتهم.






"ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) k
المقصد الأول
(إثبات البعث وتكذيب الكافرين به)
في هذه الافتتاحية التي تأسر القلوب وتستولي على الأسماع والعقول تقدم السورة لموضوعها الأساسي الذي تدور حوله، وهو إثبات البعث.
ومن ثم فهذه المقدمة قد تضمنت عدة أمور هي:
1-جذب الأسماع للانتباه والتأمل.
2-تقرير أمر البعث وتوكيده.
3-تقرير تعجب الكافرين من نذارة الرسول r لهم بالبعث واستبعادهم له.
4-الرد المجمل على استبعاد الكافرين للبعث.
5-كشف حقيقة حال الكافرين وبيان سبب كفرهم واضطرابهم في أمر البعث.
وتتضافر الوسائل التعبيرية المختلفة على تقرير هذه الأمور وبيانها بأردع بيان، بحيث تتحقق المطابقة بينها وبين مقتضيات الأحوال من خلال أنظمة اللغة ومستوياتها المتعددة، وفيما يلي بيان ذلك.
أولاً: تحقق المطابقة على المستوى المعجمي:
ق: اختلف المفسرون في نظرتهم إلى الحروف التي تفتتح بها السور فمنهم من يكل علمها إلى الله تعالى، ويجعلها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، فيقول في تفسير (ق) أو (ص) أو (الم)...إلخ (الله أعلم بمراده)([1]).
ومنهم من يرى أنها أحرف جيء بها للاستفتاح والتنبيه وإثارة الذهن والانتباه([2]).
ومنهم من يرى أن هذه الأحرف أنما جيء بها للتنبيه على أن القرآن من جنس الأحرف التي يتكلم بها العرب، ومع ذلك فهم عاجزون عن الإتيان بسور من مثله.
ويرشح أصحاب هذا الرأي لقولهم بأن هذه الأحرف قد اطرد بعدها ذكر القرآن الكريم كما في هذه السورة: }ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ{ أو }ص‌ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ{ [ص:1]، أو }الـم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ{ [البقرة:1،2]، أو }الـم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ{ [آل عمران:1-3]، أو يأتي موصوفًا بأنه ذكر أو تنزيل أو غير ذلك من أوصاف القرآن وأسمائه مثل: }الـم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ [السجدة:1،2]، ومثل: }كـهيعص‌ (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا{ [مريم:1،2] إلخ.
كما يدلل أصحاب هذا الرأي على ذلك بأن الحروف المذكورة في أوائل السور قد اشتملت على جميع صفات الحروف من الهمس والجهر، والتفخيم والترقيق، وغير ذلك، فكأنها أمثلة مما يتكلمون به، تدلل على أن القرآن من جنس هذه الأحرف وتقرر عجزهم عن مشابهته ومناظرته([3]).
ومنهم من يرى أن هذه الأحرف أسماء للسور، كما في الحديث: "كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم. السجدة"([4]).
ومن المفسرين من يرى أن هذه الأحرف إنما هي إشارات ورموز لمعان تدل عليها بطريق الإيجاز والاختصار كقول الشاعر:
قلنا قفي لنا فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
تعني: وقفت.
وقال الآخر:
ما للظليم عال كيف لايا ينقد عنه جلده إذا يا
فقال ابن جرير: كأنه أراد أن يقول إذا يفعل كذا وكذا فاكتفى بالياء من يفعل. وقال الآخر:
بالخير خيرات وإن شرًّا فا ولا أريد الشر إلا أن تا
يقول: وإن شرًّا فسْرٌ إلا أن تشاء، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما، ولكن هذا ظاهر من سياق. الكلام والله أعلم([5]).
ولا نريد أن نخوض هنا في سرد حجج كل فريق ودحضه للآراء الأخرى لأننا نرى أن هذه الأقوال كلها واقعة في دائرة الاجتهاد المأذون فيه، مع عدم وجود أدلة كافية للقطع بأحد هذه الآراء دون بقيتها، فهي جميعًا واقعة في دائرة الاحتمال.
وبدلا من محاولة ترجيح أحد هذه الآراء على غيرها فإننا سنقوم بمحاولة تطبيق هذه الآراء على هذه الحرف (ق) الذي افتتحت به هذه السورة الكريمة.
فنحن نرى أن البدء بهذا الحرف المبهم يدير الذهن في كل ما يتعلق به، وكل ما يمكن أن يكون إشارة إليه لاسيما في الأمر الذي يحتدم الصراع حوله، والموضوع الذي هو محل الخطاب بين المخاطَب والمخاطِب وهو أمر القيامة، وتنزل القرآن بإثبات البعث والمعاد الذي يكذبون به.
فيحتمل الذهن أن يكون ذلك إشارة إلى القيامة، ويحتمل أن يكون إشارة إلى القرآن، لاسيما وقد بدئت السورة بذكره وختمت بذكره، قال تعالى في بداية السورة: }ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ(1){ وقال في آخرها: }فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ(45){.
كما يحتمل أن يكون إشارة إلى القفو والتتبع، فالله تعالى قافٍ أثرهم، يتتبعهم ليحشرهم ليوم لا ريب فيه([6]) أو هو أمر بقفوِ القرآن أي: اتباعه أو هو أمر بالوقوف عند ما جاء فيه والعلم به([7]).
كما يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى القول والمجادلة في أمر البعث والقيل والقال فيه، خاصة أن السورة قد اشتملت على كثير من الحوارات:
}فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ{ [ق:2]
}وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ{ [ق:23]
}قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ{ [ق:27]
}قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ{ [ق:28]
}مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ{ [ق:29]
}يَوْمَ نقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ{ [ق:30]
}نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ{ [ق:45]
ومما يرشح لذلك أن السورة تبدأ بحكاية قول الكافرين:
}فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ{ [ق:2]
وتختم بحكاية قولهم كذلك:
}نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ{ [ق:45]
كما يحتمل الإشارة إلى أن القيامة (حق)، والقرآن الذي أخبر بذلك (حق)، والرسول الذي جاء بذلك (حق)، ومن ثم تكرر لفظ الحق في هذه السورة، كما في }بَلْ كذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ{ [ق:5]
}وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ{[ق:19]
}يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ{ [ق:42]
ولا نريد هنا أن نثبت أو ننفي إشارة القرآن بهذا الحرف إلى شيء من هذه المعاني، بقدر ما نريد أن نقول: إن من إعجاز هذا الحرف هو أنه يثير الذهن ويحركه لاحتمال هذه المعاني جميعًا وهي كلها معان صحيحة ومقصودة ومتآزرة مع معاني السورة ومقاصدها وليست غريبة عنها.
كما قد يكون المراد منه هو التنبيه وإثارة الذهن تنويهًا بعظم ما يتلى وأهمية الأمر الذي هو محل إعراض وتكذيب من الكافرين، أو محل غفلة من المؤمنين، فالاستعداد للموت واليومِ الآخرِ الناسُ جميعًا في غفلة عنه، متشاغلين بحياتهم الدنيا، وإن تفاوتت درجة الغفلة بينهم إلا أنها تعمهم جميعًا كافرهم ومؤمنهم.
كما قد يكون المراد بهذا الحرف هو إثبات التحدي للكافرين، من جهة أنه حرف من جنس ما يتكلمون به، وقد عجزوا عن الإتيان بمثله، ومع ذلك يكذبون بمجيئه من عند الله، ويرشح لذلك ذكر القرآن المجيد بعده.
كذلك فإن هذا الحرف اسم لهذه السورة، وهذا يتفق مع قول من يرى أن هذه الأحرف أسماء للسور التي بدأت بها([8]). وبعد ذلك كله نقول: كما قال بعض المفسرين: الله أعلم بمراده أيُّ ذلك هو المراد، وقد يكون ذلك كله مرادا ويكون ذلك من إعجاز القرآن في دلالة حروفه وكلماته على معان كثيرة كلها صحيحة متفقة مع سياقها ومقامها.
ولعل في هذا توفيقًا وجمعًا بين هذه الأقوال المتعددة في الحروف المفتتحة بها السور.
}وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ{: "المجيد: ذو المجد والشرف على غيره من الكتب"([9]) "والمجد: الكرم والشرف، والمجيد فعيل منه للمبالغة، وقيل: هو الكريم المفضال. وفعيل فيه أبلغ من فاعل فكأنه جمع معنى الجليل والوهاب والكريم. والمجيد: الرفيع العالي"([10])، و"المجد: السعة في الكرم والجلال"([11])، و"المجد ويقال المجادة: الشرف الكامل وكرم النوع"([12]).
وإذا كانت الدلالة المعجمية لمادة (مجد) تدور حول التناهي في الشرف والكرم والجلال؛ فإن هذا يأتي متناسبًا تمام التناسب مع هذا القسم بالقرآن، لأن القسم يوحي بعظمة المقسم به ويوحي بمجادته وقداسته فناسب وصف القرآن المقسم به بالمجيد. وهذا الوصف دلّ على مجد القرآن وشرفه وفضله على ما سواه من الكلام وما سواه من الكتب، فليس في كلام الناس، ولا كلام الرسل، ولا ما أنزل الله تعالى من الكتب السابقة ما يفوق القرآن في فصاحته وبلاغته، وإعجاز نظمه، ودقة معانيه، وإحكام أحكامه وآياته، فقد أنزله الله تعالى }مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ{ [المائدة:48].
ولذلك ناسب القسم بالقرآن ووصفه بالمجيد دون (الكتاب) لكون فضله وشرفه في كونه مقروءًا، متعبدًا بتلاوته، يُتحدى بنظمه ومعانيه المحكمة المفصلة والمبينة لكل شيء }وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ{[النحل:89].
فالكتب كلها منزلة من عند الله، ولكنه يزيد عليها شرفًا ومجدًا في أنه قد وقع التحدي بنظمه، وذلك لا يكون إلا بقراءته وسماعه التي يتبين بها فصاحته وبلاغته.
وقوله تعالى: }بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ{[ق:2-3].
بل: تفيد الإضراب عن كلام سابق. والكلام السابق على هذا الإضراب هو القسم المحذوف الجواب، والجواب مقدر بأن القرآن حق، أو الرسول r حق([13])، أو ما جاء به الرسول r من النذارة بالبعث حق([14])، وهو الأرجح، ويدل عليه ما بعده من ذكر البعث.
وهذا هو ما حدث الإضراب عنه، فكأن الكفار قد أعرضوا عن موجب ذلك القسم وهو الإيمان بما جاء به الرسول r من الإنذار بالبعث وأتوا بنقيضه فعجبوا أن جاءهم منذر منهم بذلك، }فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ(2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ{.
عجبوا: "أي حصل لهم العَجَب بفتح الجيم، وهو الأمر غير المألوف للشخص"([15]) و"(العجب): روعة تأخذ الإنسان عند استعظام الشيء"([16])
ومن ثم جاء التعبير بالعجب مطابقًا لبيان استعظامهم لهذا الأمر واستنكارهم له، وادعائهم أنه أمر غير مألوف ولا معروف.
وعجبهم إنما كان من كون الرسول r بشرًا مثلهم، ومن كونه ينذرهم بالبعث والنشور([17]).
وفي الحقيقة إنهم جاحدون معاندون للفطرة السليمة التي تقر بما جاءت به الرسل.
وقد بين القرآن عجبهم من الأمر الأول في غير ما موضع مثل قوله تعالى: }وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا{[الإسراء:94] وقوله تعالى هنا: }بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ{ "وعبر عن الرسول r بوصف "منذر" وهو المخبر بشرّ سيكون، للإيماء إلى أن عجبهم كان ناشئا عن صفتين في الرسول r إحداهما: أنه مخبر بعذاب يكون بعد الموت، أي مخبر بما لا يصدقون بوقوعه، وإنما أنذرهم الرسول r بعذاب الآخرة بعد البعث كما قال تعالى: }إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ{ [سبأ:46].
والثانية: كونه من نوع البشر"([18]).
وبين هنا عجبهم من الأمر الثاني وهو النذارة بالبعث حيث قالوا: }هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ(2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ{.
ومن ثم أتوا بلفظ (إذا) الدالة على تحقق الوقوع، للدلالة على تحقق الموت وثبوته. ووصفوا رجعهم بعد موتهم واستحالتهم ترابًا بكونه بعيدًا، أي مستبعدًا في العقول غير متصور، وهذا إنما تحيله العقول بالنسبة لمقدور البشر لا بالنظر إلى مقدور الخالق المقتدر.
ولما كان قولهم هذا راجعًا إلى الكفر والعناد والتكذيب لذا وضع المظهر موضع المضمر ليسجل الكفر عليهم بقوله: }فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ{.
وقوله تعالى: }قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ{.
عبر بـ(قد) لإفادة تحقق علمه سبحانه.
وعبر بالنقص دون الإعدام أو الأكل أو الأخذ؛ ليفيد أن الأرض إنما تأكل من أجسادهم شيئًا فشيئًا وأنها لا تفنيهم تمامًا؛ لأنه يبقى من الإنسان جزء صغير يسمى عجب الذنب يحييه الله تعالى منه يوم القيامة.
قال ابن عاشور: "وعبر بـ"تنقص الأرض" دون التعبير بالإعدام لأن للأجساد درجات من الاضمحلال تدخل تحت حقيقة النقص فقد يفنى بعض أجزاء الجسد ويبقى بعضه، وقد يأتي الفناء على جميع أجزائه، على أنه إذا صح أن عَجْب الذنب لا يفنى كان فناء الأجساد نقصًا لا انعدامًا"([19]).
"وأَنْقَصَهُ لغة، وانتقصه وتنقَّصه: أخذ منه قليلاً قليلاً"([20]).
ووصف الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي تسجل فيه مقادير كل شيء بأنه حفيظ، مناسب لما ذكر من نقص الأرض من أجسادهم فالحفظ في مقابل النقص الذي هو في معنى الضياع([21])، كما قال تعالى: }وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ{[السجدة:10]
}قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ{
"التعبير يجسم حركة الأرض ويحييها، وهي تذيب أجسامهم المغيبة فيها، وتأكلها رويدًا رويدًا، ويصور أجسادهم وهي تتآكل باطراد وتبلى، ليقول: إن الله يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم، وهو مسجل في كتاب حفيظ، فهم لا يذهبون ضياعًا إذا ماتوا وكانوا ترابا. أما إعادة الحياة إلى هذا التراب فقد حثت من قبل، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي([22])"
ومن ثم حسنت هذه المطابقة لمطابقتها للمعنى، فبينت أن الله تعالى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من أجسادهم مهما غابت في غياهب الأرض.
وناسب التعبير بالكتاب ليدل على أن كل شيء من ذلك مكتوب ومسجل ومحفوظ في هذا اللوح المحفوظ.
ثم زاد في الدلالة على الحفظ في وصف هذا الكتاب بقوله: }وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ{[ق:4] فوصفه بالعندية المنسوبة إليه سبحانه كناية عن كمال الحفظ، لأنه يكون ثمة في حفظ الحفيظ سبحانه.
}بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ{
}بَلْ{: إضراب عن التمادي في جوابهم لأنهم ليسوا أهلا للخطاب، وليسوا من يطلب دليلا للاهتداء، وإنما حقيقة أمرهم هو التكذيب بالحق عنادًا واستكبارًا رغم وضوح أدلته، فمرجع أمرهم إلى مجرد التكذيب والجحود.
}كَذَّبُوا بِالْحَقِّ{: عبر بالحق عن البعث المخبر به لتأكيد كونه حقًّا لا مرية فيه، ولإظهار المفارقة بين مجيء الحق الواضح إليهم وتكذيبهم به رغم وضوحه وبيانه.
}لَمَّا جَاءهُمْ{: (لما) "حرف توقيت فهي دالة ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى: }فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ{ [البقرة:17]، وقوله: }فَلَمَّا جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ{ [البقرة:89] وقد مضيا في سورة البقرة. ومعنى }جَاءهُمْ{: بلغهم وأعلموا به.
والمعنى: أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله، وهو أول حق جاء به القرآن، ولذلك عقب بقوله: }أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا{ إلى قوله: }وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا{.
فالتكذيب بما جاء به القرآن يعم التكذيب بالبعث وغيره"([23]).
}فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ{: عبر بـ(في) ليدل على كمال اضطرابهم، فكأنهم منغمسون في الاضطراب، فهو لازم لهم ويحتويهم احتواء الظرف لما فيه.
ومن ثم فاستعمال (في) هنا استعارة تبعية"([24]).
(مريج): المريج معناه المختلط: قال ابن زيد، وقال ابن عباس: المريج: المنكر، وقال مجاهد: المتلبس، المريج: المضطرب([25]). وفي اللسان، مَرِجَ: قَلِقَ، مرج الأمر: التبس واختلط. وفي التنزيل "فهم في أمر مريج" يقول: في ضلال.
وقال أبو إسحاق: في أمر مختلف ملتبس عليهم، مَرَجَ أَمرَه: ضيَّعه. المرج: الفتنة المشكلة، المرج: الفساد. وفي الحديث: "كيف أنتم إذا مرج الدين" أي: فسد وقلقت أسبابه([26]).
وعبر بلفظ مريج([27]) ليدل على اضطرابهم وتخبطهم في الأمر إزاء ما جاءهم به النبي r من النذارة بالبعث، فتارة يصفونه بالسحر أو الشعر وتارة يصفونه بالكهانة، وتارة يصفونه بالجنون، وتارة يصفونه بأنه أساطير الأولين...إلخ([28]).
ثانيًا: تحقق المطابقة على المستوى الصوتي:
تشارك الظواهر الصوتية المختلفة الدلالة المعجمية في الإيحاء بمعانيها فتأتي مؤازرة لها، ومتسقة مع المعاني السياقية والمقامية لمقاصد الآيات ولنتأصل على سبيل المثال:
}ق{: الحروف التي يبدأ بها في مفتتح السور تشتمل على مدّ يسمى بالمد الحرفي المثقل، فيمد الألف في القاف ست حركات، وهذا المد كاف لإثارة الذهن، وجذب الانتباه، والاستحواذ على الأسماع لسماع ما يتلى.
كذلك فإن حرف القاف من الحروف المفخمة التي تملأ الفم خاصة وأنه يخرج من أقصى الحلق، وهذا التفخيم والامتلاء المصاحب لنطق الحرف يتناسب تمام المناسبة مع جو السورة وهول الحديث عن القيامة وأهوالها ومشاهدها.
كلمة (مَرِيجٍ) تصاحبها القلقلة في (الجيم) عند الوقوف عليها مع ما فيها من الجهر والشدّة، لتتآزر ظاهرة القلقلة فيها وكذلك في أغلب آيات السورة مع اضطراب هؤلاء الكافرين في اعتقاداتهم وتخبطهم فيها إزاء ما أنزل الله من الحق.
كلمة (حَفيظ) وفي المقابل تخلو كلمة حفيظ من دواعي القلقلة لأن حرف الظاء ليس من حروف القلقلة، لتنتهي بثبات هذا الحرف وعدم قلقلته أو اضطرابه مما يتناسب مع معنى الحفظ الذي يُطْلَبُ فيه الثبات والاستقرار.


ثالثًا: تحقق المطابقة على المستوى الصرفي:
}الْمَجِيدُ{: وصف القرآن بالمجيد بصيغة (فعيل) الدالة على المبالغة للدلالة على كمال مجده و"ذلك بأنه يفوق أفضل ما أبلغه الله للناس من أنواع الكلام الدال على مراد الله تعالى"([29]).
أو فعيل فيه بمعنى مفعل، كبديع بمعنى مبدع، لكن في مجيء فعيل وصفًا من الإفعال كلام، وأكثر أهل اللغة لم يثبته([30]).
}مُنْذِرٌ{: التعبير باسم الفاعل دون (فعيل) لأنها دونها في الدلالة على الفعل.
لأن المقصود أنهم قد عجبوا بمجرد بدء الرسول في إنذارهم، فأبدوا التعجب والتكذيب لأول وهلة دون تأمل أو تدبر.
}فَقَالَ الْكَافِرُونَ{: التعبير بصيغة الفاعل بدل التعبير بالفعل }فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا{ مثلا للدلالة على ثبوت الصفة لهم واستحقاقهم لها وكونها أصبحت سمة لهم.
}عَجِيبٌ{: التعبير بصيغة (فعيل) دلّ على اعتقادهم ثبوت العجب لهذا الأمر وكونه لازمًا له لا ينفك عنه.
}مِتْنَا وَكُنَّا{:جاء التعبير بالماضي للدلالة على تحقق الموت والصيرورة إلى التراب.
}رَجْعٌ{: أتوا بالاسم من الفعل اللازم (رَجْعٌ) دون ما سواه من المصادر كالإرجاع الذي يدل على وجود فاعل مرجع لعدم اعتقادهم به، وأتى بـ(رجع) دون (رجوع) لأن المقصود نفي أدنى (رجع) أو (بعث) يمكن تصوره فأتى بالمصدر الأخف للدلالة على أقل ذلك.
}بَعِيدٌ{: عبر بالصفة المشبهة دون الفعل (بَعُد) للدلالة على ثبوت بعده، والمبالغة في استبعاده.
}تَنْقُصُ{: عبر بالمضارع للدلالة على أن نقص الأرض من أجسادهم مستمر متكرر يحدث شيئًا فشيئًا.
}حَفِيظٌ{: فعيل هنا إما بمعنى فاعل أي حافظ لما سجل فيه من الأشياء وأعدادها وآجالها وغير ذلك.
وإما بمعنى مفعول: أي محفوظ مما قد يعتري الكتب من المحو والتغيير أو السرقة ونحوه، وإذا كان سياق الآيات يدل على أنهم يستبعدون إحصاء الله تعالى لذرات أجسادهم بعد أن تغيب في الأرض، وذلك كما ذكر الله تعالى عنهم: }وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ { [السجدة:10] أي أئذا غبنا فيها بأن صرنا ترابًا مختلطًا بترابها، فكأن مثار الشك أو الجدل لدى هؤلاء الكافرين هو في كون الكتاب حافظًا لذرات أجسادهم؛ لا في كونه محفوظًا؛ ولكن آثر التعبير القرآني المعجز صيغة (فعيل) لكي يثبت كلا المعنيين: كونه حافظًا، وكونه محفوظًا؛ وذلك لأنه إذا كان المراد هو إثبات كونه حافظًا؛ فإن مما يتم به المعنى أن يكون الكتاب محفوظًا كذلك من التغيير والتبديل، إذ لا يتم الحفظ إلا بذلك.
رابعًا: تحقق المطابقة على المستوى النحوي:
}وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ{: قسم بالقرآن، والقسم به كناية عن التنويه بشأنه؛ لأن القسم لا يكون إلا بعظيم عند المقسم فكان التعظيم من لوازم القسم.
وجواب القسم محذوف لتذهب نفس السامع في تقديره كل طريق ممكن في المقام فيدل عليه ابتداء السورة بحرف "ق" المشعر بالنداء على عجزهم عن معارضة القرآن بعد تحدّيهم بذلك، أو يدل عليه الإضراب في قوله: }بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ{.
والتقدير: والقرآن المجيد إنك لرسول الله بالحق، كما صرح به في قوله }يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{ [يس:1-4]. أو يقدر الجواب: إنه لتنزيل من رب العالمين، أو نحو ذلك كما صرح به في نحو: }حـم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{ [الزخرف:1-3] ونحو ذلك والإضراب الانتقالي يقتضي كلامًا منتقلا منه والقسم بدون جواب لا يعتبر كلامًا تامًّا فتعين أن يقدِّر السامع جوابًا تتم به الفائدة يدل عليه الكلام.
وهذا من إيجاز الحذف وحسنه أن الانتقال مشعر بأهمية المنتقل إليه، أي عَدَّ عمَّا تريدُ تقديرَه من جوابٍ وانتقِلْ إلى بيان سبب إنكارهم الذي حدا بنا إلى القسم كقول القائل: دع ذا، وقول امرئ القيس:
فدع ذا وسلَّ الهم عنك بِحَسْرَةٍ ذَمُولٍ إذا صامَ النهارُ وهَجَّرَا
وقول الأعشى:
فدع ذا ولكن رب أرض مُتيهة قطعتُ بِحُرْ جُوْجٍ إذا الليل أظلما([31]).
قلت: كذا قدر بعضهم جواب القسم بأنه قسم على أن الرسول حق، والأولى تقديره بما دارت عليه مقاصد السورة من أولها إلى آخرها وهو أمر البعث والتكذيب به، وإثباته وبيان أهواله ومواقفه، وحال المكذبين به وغير ذلك مما فصلته السورة وسبق بيانه([32]).
}بَلْ عَجِبُوا{:أسلوب خبري والتركيب مُصَدَّرٌ بحرف الإضراب بما يشعر بمجيء هذا الخبر للإنكار لعجبهم الشديد من البعث.
}أَنْ جَاءهُمْ{: مجرور بـ(من) المحذوفة، وحسن حذف (من) التي تدل على السبب والعلة، فجاءت الآية بإطلاق العجب، كأن عجبهم حاصل بمجرد مجيء النذير بلا سبب ولا علة قد وقفوا عليها بما يشعر أنهم قد بادروا إلى التعجب والتكذيب بلا تأمل ولا روية.
}مُنْذِرٌ مِنْهُمْ{: منهم صفة لمنذر، وأدخلت الصفة هنا بـ(منهم) على (منذر) لأن لها مدخلا في تعجبهم، إذ إن عجبهم كان من أمرين هما: النذارة بالبعث، وكون النذير بشرًا منهم.
والإشارة بقولهم: }هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ { أفادت أن المشار إليه بالعجب في زعمهم مما يستدعي العجب والإنكار والإشارة إليه بالتعجب، وإشارتهم هنا هي إلى ما هو جار في مقام مقالتهم تلك من دعاء النبي r إياهم للإيمان بالرجع، أي البعث وهو الذي بينته جملة }أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا{([33]) إلخ.
وفي البحر المحيط: "والإشارة بقولهم: }هذا شيء عجيب{ الظاهر: أنها إلى مجيء منذر من البشر. وقيل: إلى ما تضمنه الإنذار. وهو الإخبار بالبعث، وقال الزمخشري: وهذا إشارة إلى المرجح. وفيه بعد([34])"
وإفادة الإشارة هنا للتعجب هي كما في قول ابن الراوندي:
كم عاقلٍ عاقلٍ أعيتْ مذاهبِهُ وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقا
هذا الذي تركَ الأوهامَ حائرةً وصَيَّرَ العالِمَ النَّحْرِيرَ زنديقا
ولذا أجابه الطيبـي –رحمه الله بقوله:
كم من أديبٍ فَهْمٍ قَلْبُهُ مُستكمل العقل مقلَّ عديمِ
ومن جهول مكثر ماله "ذلك تقديرُ العزيزِ العليمِ"([35])
}أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ{ الاستفهام دال على الإنكار وبيان علة تعجبهم، فعبروا عن تعجبهم وإنكارهم بصنوف من الأدوات كالإشارة والاستفهام واستعمال اللفظ المخصوص بالدلالة عليه، والمبالغة بما يدل على تحقق فنائهم...إلخ. والمستفهم عنه في قولهم: }أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ{ محذوف وتقديره: (أنرجع؟) وحذف المستفهم عنه للدلالة على شدة استبعادهم له حتى كأنهم لفرط استبعادهم له لا تسيغ ألسنتهم النطق به.
}ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ{ دلالة الإشارة هنا أيضًا لإفادة التعجيب والاستنكار بنحو ما بينا في قولهم: }هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ{ وقول ابن الراوندي: هذا الذي ترك الأوهام حائرة
}قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ{ أسلوب خبري مُصدَّر بقد لإفادة تحقيق العلم وثبوته ثبوتًا تامًا. وفي ذلك رد لقولهم: }ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ{ فإن الشبهة قد حصلت لهم من ظنهم أن الله يمكن أن يغيب عنه ما تنقصه الأرض من أجسادهم أو يخفى عليه بعضه فكيف يقدر على جمعه وإعادته، فأبطل أصل شبهاتهم في ذلك.
"وفصلت الجملة بدون عطف لأنها ابتداء كلام لرد كلامهم، وهذا هو الأليق بنظم الكلام، وقيل: هي جواب القسم"([36]).
}وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ{ أسلوب خبري تقدم فيه الخبر على المبتدأ وجوبًا، فأفاد أهمية المقدم والتفات السامع إليه وهو (عندية الله تعالى) لما فيها من الدلالة على تمام الحفظ.
فدل على الحفظ بأمور:
الأول: كونه عنده، وذلك كاف في الحفظ.
الثاني: كونه في كتاب، وهو أوثق لإحصائه.
والثالث: كونه حافظًا لما فيه، وهو ما دلت عليه (حفيظ) بمعنى (حافظ).
والرابع: كونه محفوظًا من التغيير والتبديل، وهو ما دلت عليه (حفيظ) بمعنى (محفوظ) وهو مشعر بوجود حفظة يحفظونه من الملائكة جريًا على سنة الله في الحفظ، وإن كان محفوظًا بحفظ الله تعالى بغير سبب ولا واسطة.
([1]) انظر على سبيل المثال تفسير الجلالين في هذا الموضع.
([2]) انظر على سبيل المثال تفسير الزمخشري (1/138)، وابن كثير في تفسير (الم. البقرة) (1/38،39) حيث نقلا هذا القول عن بعض المفسرين.
([3]) انظر في تفصيل هذا المذهب تفسير الكشاف للزمخشري (1/138-139) ط مكتبة العبيكان.
([4]) انظر تفسير ابن كثير (1/36) في تفسير (الم) [البقرة :1].
([5]) انظر تفسير ابن كثير ص(1/38)- المكتبة التوفيقية.
([6]) قلت: هذا اجتهاد مني وهو قريب مما قاله الألوسي في هذا الموضع.
([7]) انظر الألوسى- روح المعاني (26/171).
([8]) وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم انظر تفسير ابن كثير (1/37).
([9]) الكشاف (5/591) ط العبيكان.
([10]) اللسان: مجد.
([11]) الراغب: المفردات (مجد) ص(463) ط دار المعرفة.
([12]) الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير (26/276).
([13]) انظر التحرير والتنوير (26/277).
([14]) الدر المصون (6/174).
([15]) انظر التحرير والتنوير (26/278).
([16]) الوسيط: مادة عجب. "والعُجْبُ، والعَجَبُ: إنكاء ما يرد عليك لقلة اعتياده، قال ابن الأعرابي: العَجَب النظر إلى الشيء غير مألوف ولا معتاد، والتَّعَجُّبُ: أن ترى الشيء يعجبك تظن أنك لم تر مثله، والعجيب: الأمر تعجب منه". [وانظر اللسان مادة: عجب].
([17]) انظر تفسير البحر المحيط (8/120).
([18]) انظر التحرير والتنوير (25-26/279)- الدار التوفيقية للنشر.
([19]) انظر التحرير والتنوير (25-26/283).
([20]) انظر لسان العرب مادة: نقص.
([21])الحفظ: نقيض النسيان، وهو التعاهد وقلة الغفلة. والحافظ والحفيظ: الموكل بالشيء يحفظه. الحفظة: الذين يحصون الأعمال، ويكتبونها على بني آدم من الملائكة، وحفظ المال والسًّرًّ حفْظًا: رعاه. والتحفظ: قلة الغفلة في الأمور والكلام والتيقظ من السقطة، والمحافظة: المواظبة على الأمر. والمحافظة: المراقبة. والمحافظة والحِفَاظُ: الذَّبُّ عن المحارم. والحافظ: الطريق البيَّنُ المستقيم الذي لا ينقطع". [اللسان: حفظ].
([22]) في ظلال القرآن (6/3358).
([23]) انظر التحرير والتنوير (25-26/284).
([24]) التحرير والتنوير (25-26/284).
([25]) انظر المحرر الوجيز (5/156).
([26]) انظر لسان العرب مادة: مرج.
([27]) يقال مرج الخاتم في الإصبع إذا تحرك واضطرب. انظر الكشاف للزمخشري (4/ ).
([28]) تفسير النسفي (3/4) صـ 176. "قال صاحب الظلال: يكشف عن حقيقة حالهم، التي تنبعث من تلك الاعتراضات الواهية، ذلك أنهم تركوا الحق الثابت، فمادت الأرض من تحتهم، ولم يعودوا يستقرون على شيء أبدًا }بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج{ وإنه لتعبير فريد مصدر مشخص لحال من يفارقون الحق الثابت، فلا يقر لهم من بعده قرار إن الحق هو النقطة الثابتة التي يقف عليها من يؤمن بالحق فلا تتزعزع قدماه، ولا تضطرب خطاه؛ لأن الأرض ثابتة تحت قدميه لا تتزلزل ولا تخسف ولا تغوص. وكل ما حوله –عدا الحق الثابت- مضطرب مائج مزعزع مريج، لا ثبات له ولا استقرار، ولا صلابة له ولا احتما، فمن تجاوز نقطة الحق الثابتة زلت قدماه في ذلك المضطرب المريج وفقد الثبات والاستقرار، والطمأنينة والقرار، فهو أبدًا في أمر مريج لا يستقر على حال. ومن يفارق الحق تتقاذفه الأهواء وتتناوحه الهواجس، وتتخاطفه الهواتف، وتمزقه الحيرة وتقلقه الشكوك، ويضطرب سعيه هنا وهناك، وتتأرجح مواقفه إلى اليمين وإلى الشمال، وهو لا يلوذ من حيرته بركن ركين ولا بملجأ أمين، فهو في أمر مريج. إنه تعبير عجيب، يجسم خلجات القلوب، وكأنها حركة تتبعها العيون([28])".[في ظلال القرآن (6/3358،3359).
([29]) التحرير والتنوير (25-26/277).
([30]) الألوسي (26/171).
([31]) التحرير والتنوير (25-26/277-278).
([32]) وممن ذهب إلى ذلك من المفسرين: الزجاج والمبرد والأخفش انظر المحرر الوجيز (5/155)، والدر المصون (6/147). وفي البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (8/120) والجواب محذوف يدل عليه ما بعده وتقديره: إنك جئتهم منذرًا بالبعث.
([33]) انظر التحرير والتنوير (25-26/280).
([34]) البحر المحيط (8/120)، وانظر الكشاف (4/19).
([35]) التبيان في المعاني والبيان للطيبـي- تحقيق د/عبدالحميد هنداوي- المكتبة التجارية- مكة المكرمة (1/158).
([36]) انظر التحرير والتنوير (25-26/281).