الجمعة، 2 ديسمبر 2011

رسالة الأدب في تراثنا النقدي



رسالة الأدب
في
تراثنا النقدي




أ.د/ عبدالحميد هنداوي
للأدب في تراثنا النقدي رسالة سامية فهو كما قال نقادنا القدامى يسل السخائم، ويحل العقد، ويسخي الشحيح، ويشجع الجبان...، وقد قال النبي r: "إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمة". غير أنه قد شاعت مقولات في تراثنا النقدي قالها أربابها في سياق بعينه لا يقصدون من ورائها غضّا ولا نقصًا من قيمة الأخلاق والقيم، ولا يرومون من خلالها تهوينًا لشأن الدين ووجوب التزام الشاعر والأديب به وتقيده بقيوده.
ومع ذلك فقد راجت تلك المقولات، وتفشت على ألسنة الزائغين كتفشي النار في الهشيم.
فقد شاع في تراثنا النقدي مقولة إن "الدين عن الشعر بمعزل" و "إن الشعر إذا أدخلته في جانب الخير لان جانبه" ونحو ذلك من المقولات التي تلقفها الزائغون الذين أرادوا أن يجردوا الأدب من رسالته وغايته، فأخذوا هذه الكلمات، واقتطعوها من سياقها، وطاروا بها فرحًا مروجين لشعر الخمر والمجانة والخلاعة والغزل الفاحش وإتيان المُردان[1]، وغير ذلك من ألوان الأدب الإباحي الفاضح المكشوف.
بل إنهم قد زادوا على ذلك فاتخذوا من تلك المقولات سلاحًا يدافعون به عن كل مستهزئ بالدين ومستهتر به وكل طاعن فيه وملحد به، مادام أن ما أتى به من كلمات الكفر والزيغ والإلحاد قد صيغت صياغة فنية بديعة، فهذا كله في زعمهم عن الدين والأخلاق والقيم بمعزل، والدين بمعزل عنه.
وقبل أن نعرض للشبه التي استند إليها أصحاب الرأي الباطل، ونفند مزاعمهم، ونورد من كلام السلف من النقاد القدامى ما يشهد بخلافه، ويبين منزلة الدين والأخلاق والقيم ووجوب محافظة الأديب والشاعر عليها والتزامه بها – قبل ذلك كله نريد أن نمهد بنقاط أساسية نجعلها منطلقات ننطلق منها، وأصولاً نرجع عند الحاجة إليها.
ولذا فسوف نبدأ أولاً ببيان معنى الأدب، ومعنى النقد في تراثنا النقدي كمنطلقات أساسية ننطلق منها في هذا المبحث.
تعريف الأدب:
معنى الأدب في العصر الجاهلي:
إذا حاولنا أن نرجع إلى الاستعمال المبكر لكلمة الأدب عند العرب، فإننا نجد أن اسم الفاعل منها (آدب) قد ورد في الشعر الجاهلي في بيت لطرفة بن العبد في قوله:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فينا ينتقر([2])
والآدب هنا هو: صانع المأدبة أو الداعي إليها.
الأدب في العصر الجاهلي يعبر عن الخلق القويم بصورة حسية:
والبيت تظهر فيه ظلال هذه الكلمة في استعمالها في هذا العصر الجاهلي مقرونة بخلق الكرم المتمثل في إقامة الولائم وإطعام الطعام للغني والفقير.
انتقال استعمال الكلمة إلى المعنى الخلقي التجريدي:
فالكلمة هنا تعبر عن الخلق القويم بصورة حسية، لكن سرعان ما تكتسب الكلمة مدلولاً خلقيًا تجريديًا يزاحم المعنى الحسي، وذلك كما في قول الشاعر المخضرم بن حنظلة الغنوي:
لا يمنع الناس منى ما أردت
أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبًا
ويتأكد هذا المعنى الخلقي بما روي عن النبي r أنه قال: "أدبني ربي فأحسن تأديبي"
انتقال استعمال الكلمة إلى الدلالة على الشيء الجميل المعجب:
قال ابن سيده في الحكم: "والأدْب (بالتسكين): العجب، قال: حتى أتى أُزبيها بالأدْب"([3]).
انتقال دلالة الكلمة إلى المعنى التعليمي والغائي للأدب:
ثم سرعان ما يتطور هذا المعنى الخلقي وهو الخلق الكريم إلى معنى تعليمي، حيث يصبح معنى الأدب هو تعليم الدين والأخلاق والمروءة وشمائل العرب وفضائل الإسلام.
ويبدو هذا المعنى واضحًا في اتخاذ الخلفاء والولاة وسراة القوم منذ عصر بني أمية لأبنائهم من عرفوا بالمؤدبين، ومن ثم أطلق على ما يلقنه هؤلاء المؤدبون للناشئة اسم الأدب.
وكان هؤلاء المؤدبون يعلمون الناشئة القرآن والحديث وكلام العرب وأشعارهم وتاريخهم وأنسابهم، وما ينبغي أن يكون عليه المرء من كريم الخصال، وحميد الفعال، والكرم والشجاعة وغير ذلك، وكتب الأدب والتاريخ مليئة بأخبارهم وطرائفهم، الأمر الذي لو جمع لكان في مجلدات كثيرة.
الأدب بمعنى الثقافة:
ومن هنا امتد مدلول كلمة "أدب" ليشمل أيضًا الثقافة العامة التي يؤديها المؤدبون. وقد ألفت كتب عديدة اعتبرت أدبًا بهذا المعنى، وهذه المؤلفات تنشر على مسافة زمنية طويلة، فابن المقفع يؤلف "الأدب الصغير" و "الأدب الكبير" وهما في السياسة والأخلاق، الجاحظ يؤلف "البيان والتبيين" باهتماماته المتنوعة، وكذلك ألف المبرد "الكامل في اللغة والأدب" وفي مقدمة الكتاب يذكر أغراضه من تأليفه بما يعين على تحديد مفهوم كلمة "أدب" بهذه الثقافة المتنوعة، ونمضي عن القرنين الثاني والثالث، لنجد "العقد الفريد" لابن عبدربه، يتوخى الغاية نفسها في القرن الرابع، وكتاب "زهر الآداب" للحصري، في القرن الخامس([4]).
وقد اتسعت الكلمة في بعض استعمالاتها لتشمل كل المعارف تقريبًا التي ترقى بالإنسان من ناحية الخلق والثقافة.
الأدب عند ابن خلدون:
ولكن هذا الاستعمال لكلمة الأدب قد تطور في العصور المتأخرة تطورًا ملحوظًا نستطيع الوقوف عليه من خلال تأملنا لكلام ابن خلدون في مقدمته حيث يقول: "هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو مثبوتة أثناء ذلك متفرقة يستقرئ منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة، والأخبار العامة، والمقصود بذلك كله ألا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه، لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه، فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه، ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: "الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم، والأخذ من كل علم بطرف، يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية..."([5]).
ونلاحظ على هذا التعريف عدة أمور:
الأول: صعوبة تحديد أو تعريف الأدب وبيان موضوعه، يظهر ذلك من قول ابن خلدون "هذا العلم لا موضوع له".
الثاني: تطور الغاية من الأدب في هذه العصور المتأخرة بحيث أصبحت شيئًا آخر غير مجرد اكتساب الأخلاق والفضائل والإلمام بأخبار العرب وتقويم السلوك، وإنما صار للأدب غاية أخرى هي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناهجهم.
الثالث: أن ما ذكره ابن خلدون عمن أرادوا حد هذا الفن بقوله: "الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف" هذا الذي ذكره يصح أنه يكون تعريفًا للتأدب أو ثقافة الأديب في ذلك العصر وليس تعريفًا للأدب باعتباره إبداعًا، أو نتاجًا أدبيًا فكأنهم عرفوا الأدب بما يؤدي إليه.
الرابع: أنهم أدخلوا العلوم الشرعية في ثقافة الأديب ومعنى ذلك أن الأدب حتى هذا العصر لم يتخل عن غايته التقويمية الأخلاقية ولذا اشترطوا أن تكون العلوم الشرعية جزءًا مهمًا من ثقافة الأديب، حتى ينضبط بها أدبه، ويضمن له السير في مساره الصحيح، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أن يتحول الأدب إلى مجرد وعظ وتذكير وإن كان هذا ليس خارجًا من حيز الأدب، ولكننا ننبه فقط أن ماعدا ذلك الوعظ والتذكير لا ينبغي إخراجه من حيز الأدب كذلك، مادام صاحبه متقيدًا بضوابط العلوم الشرعية التي تشكل ثقافته.
معنى الأدب في العصر الحديث هو الإبداع:
هذا المعنى الذي ظل سائدًا في تراثنا العربي أصابه تطور هائل في العصر الحديث حيث تميز مفهوم الأدب عن ثقافة الأديب وصار للأدب مفهوم محدد، وهو ما يفهمه الأدب عن ثقافة الأديب، وصار للأدب مفهوم محدد، وهو ما يفهمه كل أحد عند سماع كلمة أدب حيث اقتصر معنى الكلمة على الأدب الإبداعي الذي يلعب الخيال في تشكيله دورًا واضحًا، حيث تتلاحم عناصر اللغة والخيال مشكلة في قالب من القوالب الفنية التي يعبر الأديب من خلالها عن رؤيته الخاصة أو تجربته الشعورية التي قد تأثر بها.
قوام الأدب عنصران: الفكرة والأداة الفنية:
وبهذا يمكننا أن ننتهي إلى تصور واضح للأدب وهو ما توفر فيه عنصران، هما: الفكرة، وقالبها الفني الفكري: أيًا كانت تلك الفكرة، مادامت قد عولجت بأسلوب فني. وهذا ما يقرره بوضوح تام رائد الدرس الأدبي المقارن في مصر والعالم حيث يقرر ذلك المفهوم في مقدمة الطبعة الأولى من كتاب "الأدب المقارن" فيقول: "أما الأدب فكثيرًا ما اختلف الباحثون في تعريفه وطال جدالهم فيه ولسنا بصدد مناقشة هذه التعريفات والمفاضلة بينها.
ولكن مهما يكن بينهم من اختلاف فهم لا يمارون في توافر عنصرين في كل ما يصح أن نطلق عليه أدبًا، هما: الفكرة وقالبها الفني، أو المادة والصيغة التي تصاغ فيها. وهذا العنصران يتمثلان في جميع صور الإنتاج الأدبي: سواء أكان تصويرًا لإحساسات الشاعر وخلجات نفسه تجاه عظمة الكون وما فيه من جمال وأسرار، وحيال آلام الإنسانية وآمالها، أم كانت تعبيرًا عن أفكار الكاتب في الإنسان والمجتمع. وسواء كان ذلك الإنتاج الأدبي رسالة أو مقالة، أو مسرحية أو قصة، يدعو فيها الكاتب أو الشاعر إلى فلسفته في الحياة أو يحلل شخصيات أبطاله، عن طريق الكشف عن الحقائق، وتصوير النماذج الإنسانية تصويرًا يكفي فيه عرض حالات النفس في مواقفها المختلفة للإيحاء بالأفكار، بل ترجمة هذه الأفكار إلى مشاعر وعواطف وأعمال"([6]).
مجال الأدب وموضوعاته:
وإذا كان قوام الأدب عنصرين هما الفكرة والأداة الفنية، فإننا نقرر من خلال ما سبق أن الأفكار لا يمكن أن تنقسم في الحقيقة إلى أدبية وغير أدبية، وإنما الذي يوصف بوصف الأدبية هو المعالجة الفنية، فالأديب لا يحجر عليه أن يجول بفكره وخاطره في أي قضية أو فكرة كائنة ما كانت علمية أو سياسية أو دينية أو غير ذلك شريطة أن تكون له قضية ينفعل لها أو تجربة ومعاناة يعيشها ويحسن تصويرها، فإذا أحسن في التعبير عن موضوع أيًا كان تعبيرًا أدبيًا شعوريًا صادق الحس والأداء، فتعبيره هذا تعبير أدبي، وعمله هذا عمل أدبي، حتى وإن كان تعبيرًا عن حقيقة علمية أو غير ذلك.
أما إذا فقد الأديب حرارته الشعورية، وروعة التصوير والأداء فإن عمله لا يوصف بصفة الأدبية وإن كان فيما يتغنى به الشعراء والأدباء كل حين من وصف الأشواق والحنين.
تقسيم الأدب باعتبار مضمونه:
وإذا انتهينا إلى أن الأدبية إنما هي وصف للأداء فقط، وليست وصفًا للفكرة أو المضمون إلا باعتبار الصيغة الأدبية، أقول إذا انتهينا إلى ذلك، فإننا يمكننا أن نقسم الأدب ذاته (وأقصد بالأدب هنا كل معالج فنية بغض النظر عن مضمونها) فيمكننا أن نقسم هذا الأدب باعتبار مضمونه إلى أنواع متعددة، فيقال:
أدب أخلاقي.
أدب لا أخلاقي.
أدب إسلامي.
أدب اجتماعي.
أدب اشتراكي.
أدب ديني.
أدب فلسفي.
أدب وطني أو قومي.
أدب عاطفي.
أدب سياسي...إلخ([7])
مفهوم النقد:
يمكننا الآن أن نوضح مفهوم النقد عامة، والنقد الأدبي خاصة ولنبدأ بتحديد مفهوم النقد.
النقد عند العرب هو التمييز بين الجيد والرديء:
وإذا أردنا أن نرجع إلى معنى النقد في لغة العرب، فإننا نجد أن الكلمة قد استخدمت بعدة معان ودلالات منها ما هو وثيق الصلة بمصطلح النقد الأدبي.
فمن أبرز المعاني اللغوية التي استخدمت كلمة (النقد) للدلالة عليه في اللغة العربية: التمييز بين الجيد والرديء.
تقول المعاجم اللغوية في هذا المعنى: "نقد الدراهم أو الدنانير نقدًا، أو انتقدها انتقادًا، أو تنقدها تنقدًا: ميز جيدها من رديئها، أو صحيحها من زائفها.
والنَّقاد -بفتح النون- أو الناقد: هو الصيرفي الذي يزاول النقد بهذا المعنى، ومنه قول الشاعر([8]) في وصف ناقته:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة
نفي الدنانير تنقاد الصياريف
النقد في المعاجم اللغوية([9]):
وتضيف المعاجم إلى -جانب هذا المعنى- عدة معان آخر للفظة منها:
النظر: يقال نقد الرجل الشيء أو نقد إليه: اختلس النظر نحوه وظل ينقد بصره في الشيء: أدام النظر نحوه.
الفحص والاختبار: ومنه نقد الطائر في الفخ أي ضربه بمنقاره ليختبره ويكشف عما وراءه من أمن وخوف.
العيب والانتقاص: ومنه نقدته الحية إذا لدغته ونقدت رأسها إذا ضربته، ومنه كذلك حديث أبي الدرداء: إن نقدت الناس نقدوك، أي: إن عبتهم واغتبتهم قابلوك بمثل صنعك.
ويتضح من ذلك أن كلمة النقد كانت مستعملة لدى العرب بمعنى التمييز بين الجيد والرديء وذلك لا يكون إلا بإدامة النظر إلى المنقود وفحصه واختباره للكشف عما فيه من الزلل أو السلامة والإجادة، وقد يقتصر استعمال النقد على ذكر المآخذ والمثالب كما في قولهم: "إن نقدت الناس نقدوك" وهذا كله لا يكاد يخرج عن المعاني التي استخدمت للفظة للدلالة عليها في تراثنا النقدي كما سنقف عليه فيما بعد في تتبعنا لرحلة النقد منذ نشأته في العصر الجاهلي إلى اكتمال مقوماته في العصور المتأخرة.
بداية استعمال كلمة النقد بمعناها الاصطلاحي في القرن الثالث الهجري:
وعلى الرغم مما سجلته لنا كتب التاريخ الأدبي من كثير من المواقف النقدية بدءًا من العصر الجاهلي، فإننا لا نكاد نجد استعمالاً حقيقيًا لكلمة "النقد" بمعناها الاصطلاحي إلا في القرن الثالث الهجري.
ومن أقدم النصوص التي وردت فيها لفظة "النقد" بمعناها الاصطلاحي، ذلك النص الذي يرويه أحد علماء القرن الثالث حيث يقول: "رآني البحتري معي دفتر شعر فقال: ما هذا؟ فقلت: شعر الشنفري، فقال: وإلى أين تمضي؟ فقلت: إلى أبي العباس "ثعلب" أقرؤه عليه، فقال: لقد رأيت أبا عباسكم هذا منذ أيام عند ابن ثوابة فما رأيته ناقدًا للشعر ولا مميزًا للألفاظ ورأيته يستجيد شيئًا وينشده وما هو بأفضل الشعر، فقلت: أما نقده وتمييزه فهذه صناعة أخرى ولكنه أعرف الناس بإعرابه وغريبه([10]).
ظهور كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر في القرن الرابع الهجري:
وفي أوائل القرن الرابع الهجري ألف أبو الفرج قدامة بن جعفر (ت337هـ) كتابًا بعنوان "نقد الشعر" وهو أول مؤلف في تراثنا العربي -فيما نعلم- يتضمن عنوانه لفظة (نقد) بهذا المعنى الاصطلاحي الذي يحدده في مقدمته لهذا الكتاب حيث يقول: "العلم بالشعر ينقسم أقسامًا: فقسم ينسب إلى علم عروضه ووزنه، وقسم ينسب إلى علم مقاطعه، وقسم ينسب إلى علم غريبه ولغته، وقسم ينسب إلى علم معانيه، والمقصود به. وقسم ينسب إلى علم جيده ورديئه، وقد عنى الناس بوضع الكتب في القسم الأول وما يليه إلى الرابع عناية تامة، فاستقصوا أمر العروض والوزن، وأمر القوافي والمقاطع، وأمر الغريب والنحو، وتكلموا في المعاني الدال عليها الشعر، وما الذي يريد بها الشاعر، ولم أجد أحدًا وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه كتابًا، وكان الكلام عندي في هذا القسم أولى بالشعر من سائر الأقسام المعدودة"([11]).
ذيوع مصطلح النقد بعد ذلك في كلام الآمدي وغيره:
ولا نود هنا أن نطيل بإيراد كثير من النصوص النقدية الدالة على ذيوع استخدام لفظة النقد أو الناقد بهذا المعنى منذ القرن الثالث الهجري، وحسبنا أن نضيف إلى النصين السابقين ما ذكره الآمدي (ت371ه‍ ) في كتابه "الموازنة بين أبي تمام والبحتري" وذلك حيث يقول على لسان أصحاب أبي تمام:
"إنما أعرض عن شعر أبي تمام من لم يفهمه لدقة معانيه وقصور فهمه عنه، وفهمه العلماء والنقاد في علم الشعر وإذا عرفت هذه الطبقة فضيلته لم يضره طعن من طعن بعدها عليه"([12]).
خلاصة القول:
وفي ضوء ما سبق يمكننا القول أن النظرة إلى النقد بوصفه علمًا مستقلاً قد بدأت مع بدء استخدام لفظة النقد بمعناها الاصطلاحي أي في الدلالة على التمييز بين الجيد والرديء في مجال الشعر والأدب، وبناء على هذه النظرة إلى النقد باعتباره علمًا مستقلاً كان تأكيد القول بأن استحسان الشعر أو استهجانه لا يكون نقدًا إلا إذا صدر عن (الناقد المتخصص).
مفهوم النقد في العصر الحديث:
هل اختلف مفهوم النقد في العصر الحديث؟
يرى بعض الأساتذة المؤرخين للنقد الأدبي أن مفهوم النقد قد اختلف أو تطور في العصر الحديث فلم يصبح مجرد إصدار الحكم على العمل الأدبي بالجودة أو الرداءة، وإنما تعدى إلى الدخول في أعماق النص الأدبي بتحليله وتفسيره وبيان أصوله الفنية وغير ذلك([13]).
وهم يعللون لهذا الاختلاف أو التطور بوجود أسباب ودواع دعت إليه، مثل:
أ- اتساع رقعة الأجناس الأدبية بدخول آداب جديدة وافدة على العربية مثل المسرحية والرواية والقصة القصيرة، وتأثر الأدب العربي بها ومحاكاته إياها.
ب- تأثر الأدب العربي – كغيره من الآداب العالمية – بنتائج العلوم المختلفة التي ازدهرت في العصر الحديث.
جـ- تطور الآداب العربية الأصيلة كالشعر العربي، فقد اختلف اختلافًا كبيرًا في العصر الحديث حيث تطور تطورًا كبيرًا سواء في ألفاظه أو تراكيبه، أو في صوره وأخيلته، أو في أوزانه وقوافيه، أو في تجربة الشعر المعاصر، إلى آخر هذه الأمور التي تشكل نظرية الشعر الحديث.


كيفية تطور مفهوم النقد في العصر الحديث؟
يرى هؤلاء الأساتذة أن هذه الأسباب المذكورة آنفًا قد آدت إلى اختلاف نظرة الناقد القديم، بحيث لم يعد في مقدور الناقد المعاصر أن يقتصر على مهمة الحكم على العمل الأدبي بأنه جيد أو رديء، بل عليه، إن هو أراد أن يصل إلى ذلك – أن يقف طويلاً أمام العمل محللاً له مفسرًا إياه إذ أصبح الأديب الآن أمام حشد هائل من الثقافات المختلفة وما تعج به من رموز وأساطير وغير ذلك من أمور، وجد الأديب فيها ملجأ وعونًا، فأخذ يلجأ إليها مستعينًا بها في عمله الأدبي فيستخدم مثلاً أسطورة معينة وعاء يصب فيها أفكاره، ومن هنا أخذ العمل الأدبي صورة معقدة قد لا يستطيع القارئ الوقوف عليها بسهولة، ومن ثم تكون مهمة الناقد الذي يحاول تفسير هذا العمل صعبة. وبهذا يكون الناقد قارئًا أيضًا، بيد أنه قارئ غير عادي، إنه قارئ يمتاز عن غيره من القراء العاديين بثقافته الرفيعة، وذوقه المرهف، وقدرته على التحليل والتفسير.
وإذا كان هؤلاء النقاد يرون في الأجناس الأدبية الوافدة كالمسرحية والرواية القصيرة أسبابًا تدعو لاختلاف حقيقة النقد ومفهومه في العصر الحديث نظرًا لاختلاف طبيعة هذه الآداب عن الأدب العربي القديم ممثلاً في الشعر العربي مما يجعل القارئ بحاجة إلى الناقد الذي يفسرها له ويكشف له عن طبيعتها، أقول إذا كانت الأسباب الداعية إلى اختلاف مفهوم النقد قد تبدو كافية لدى هؤلاء النقاد في مثل فني المسرحية والرواية، فقد يختلف الحال بالنسبة للشعر الموروث من القديم غير أنهم يرون أن الشعر المعاصر ليس بأقل احتياجًا إلى التفسير والتحليل من المسرحية والرواية، فلقد أصبح العمل الشعري بالنسبة للشاعر "مغامرة يحاول خلالها أن يعيد اكتشاف الوجود، وأن يكسبه معنى جديدًا غير معناه العادي المبتذل، ووسيلته إلى ذلك هي النفاذ إلى صميم هذا الوجود لاكتشاف تلك العلاقات الخفية الحميمة التي تربط بين عناصر الوجود ومكوناته المختلفة... وهي كثيرًا ما يتجاوز العلاقات الظاهرية المحسوسة والمنطقية بين هذه العناصر... بل إن الشاعر كثيرًا ما يحطم هذه العلاقات الظاهرية المألوفة لتتحول عناصر الوجود وأشياؤه إلى مجرد مفردات وأدوات في يديه يشكل بها عالمه الشعري الخاص، أو يعيد بها صياغة العالم وفق رؤيته الشعرية الخاصة، على نحو يزيده عمقًا وثراء واكتمالاً ومن ثم لم تعد مهمة الناقد مقصورة على البحث عما إذا كان الشاعر قصر أم لم يقصر، أجاد أم لم يجد. بل أصبحت مهمته تكاد تنحصر في محاولة اكتشاف هذا العالم الجديد، الذي يعيد الشاعر صياغته وفقًا لرؤيته الشعرية الخاصة. وهنا يتحول الناقد إلى قارئ يختلف عن القراء الآخرين في الدرجة لا في النوع"([14]).
ويرى أستاذ آخر أن صورة النقد قد اختلفت كثيرًا في العالم الآن، وينبغي أن تختلف عندنا، إن لم تكن قد اختلفت بالفعل، "لقد أصبح الاهتمام بطبائع الأشياء ذاتها – لا بالأفكار المجردة التي يتصور أنها تحكمها – هو الروح المسيطر على الحركة النقدية، وبدأت قيمة الحكم في تناول العمل الأدبي تفقد بريقها، ونتيجة لازدياد الوعي العام لدى القراء أصبح تطلعهم يتجه إلى فائدة من النقد تجاوز مجرد الحكم الذي يتفضل عليهم به الناقد. لقد أصبح القارئ الواعي يصر على مصاحبة الناقد في رحلته داخل العمل الأدبي، والإطلاع على طريقته التي يصل بها إلى فهم العمل الأدبي وتقديره. ونتيجة لذلك أصبحت مقومات الحكم – لا الحكم – شغل الناقد الشاغل. وقد يصح أن يستغني بمقومات الحكم هذه عن الحكم نفسه، ولكنه لا يصح قطعًا إصدار الأحكام العامة، التي تفتقر إلى مقوماتها. وأهم هذه المقومات التعرف على خصائص العمل الفنية، من خلال رصد وسائل الفنان التي يستخدمها وهي في حالة عمل فعلي.
وهناك فرق كبير بين قراءة العمل الفني بغية إصدار الحكم عليه، وقراءته بغية فهمه، وتقديره، ففهم العمل الأدبي وتقديره لا يتطلبان بالضرورة إصدار حكم عليه بالجودة أو الرداءة، وإنما يتطلبان الكشف عن العلاقات التي تحكمه – محدثة التوازن أو الاختلال بين عناصره. إن الظلال الموروثة التي تحيط بكلمة نقد نفسها لدينا – والتي تجعلها معنى الأحكام وبخاصة ما كان منها في غير مصلحة العمل الأدبي المطروح – لم تعد مقبولة، وخاصة بعد الرحلة الطويلة التي قطعها هذا العلم والذي أصبح معها في نظر اتجاهات نقدية بأسرها لا يعني أكثر من القراءة الفاحصة وهي عبارة خطيرة الدلالة، وصعبة التحقيق"([15]).
تعقيب على المفهوم الحديث للنقد:
وهذا المفهوم الحديث للنقد نحب أن نؤكد فيه على أمر هو غاية في الأهمية، وهو أن اتساع مفهوم النقد – ليشمل تفسير العمل الأدبي وبيان أسسه وأصوله التي يرجع إليها، والتي كانت منطلق هذا الإبداع – لا يعني أن يهمل النقد دوره في تقويم العمل الأدبي والحكم عليه بالجودة أو الرداءة؛ كأن يوغل في رمزية بعيدة، أو شكلية مجردة أو نحو ذلك من المناهج التي قد يبذل الناقد إزاءها جهدًا كبيرًا في رد العمل الأدبي إليها، وتفسيره في ضوئها، حيث يجد الناقد معاناة كبيرة في حل رموز هذه الأعمال ثم يعني القارئ كذلك في متابعة هذا التفسير والكشف لتلك الرموز.
وهنا قد يشعر القارئ بشيء من خيبة الأمل والتوقع حينما يجد أن تلك المحاولات لتحليل هذا العمل وتفسيره لم تنته إلى شيء ذي بال، أو أدب ذي قيمة فنية تستحق هذا الجهد والعناء المبذول في تفسيره.
إن الناقد الجيد هو الذي لا يقنع بمجرد بيان مدى التطابق بين العمل الأدبي والاتجاه الذي ينتمي إليه، حتى يكشف لنا عن مدى النقص الذي اعترى ذلك العمل من جراء اعتماد الأديب على منهج أو اتجاه أدبي بعينه مغفلاً بقية الأصول والأسس الأدبية التي كان بوسعه أن يفيد منها لولا غلبة اتجاه بعينه عليه.
ولا مانع لدينا أن يتطرق الناقد في عمله إلى نقد الاتجاه الأدبي نفسه أو المذهب الفني الذي اتخذه الأديب وعاء لأدبه.
إن البعض قد يفهم من هذا المفهوم الحديث للنقد الذي يجعل التحليل والتفسير هو المهمة الأولى للناقد، قد يفهم من هذا خطأ أن معيار الجودة والرداءة في العمل الأدبي إذًا هو مقدار اقتراب المبدع أو ابتعاده عن أسس وأصول اتجاهه الأدبي الذي ينتمي إليه.
ونقرر أن ذلك ليس مقبولاً على الإطلاق لأنه يجعل معيار الجودة والرداءة في العمل الأدبي نسبيًا إلى حد كبير، ونحن لا ننكر اختلاف الناس في اتجاهاتهم وميولهم الأدبية، ولكننا نقرر كذلك أن ثمة قدرًا مشتركًا من الإحساس بالجمال الفني لا يكاد تختلف فيه أذواق البشر مهما اختلفت أجناسهم واتجاهاتهم، ومن ثم فإننا ندعو إلى تكثيف الجهد للكشف عن تلك الأسس والمعايير الثابتة أو المشتركة بين أجناس البشر لتكون أساسًا لنظرة نقدية عالمية مشتركة موحدة، وإن كان ذلك لا يمنع أن يكون للناقد في العمل الأدبي نظرة أخرى محلية تحكم على العمل الأدبي في ضوء المقاييس النقدية المحلية أو البيئية التي يتحاكم إليها المخاطبون بهذا الأدب.
ولنأخذ على سبيل المثال رواية (وليمة لأعشاب البحر)، تلك الرواية التي أحدثت ضجة كبيرة من جهة اشتمالها على قدر كبير من ألفاظ الكفر والنيل من الذات الإلهية المقدسة والرسل الكرام والدين الحنيف، فضلاً عما تشتمل عليه من الكلمات الفاحشة الهابطة التي تعد من وجهة النظر الإسلامية أو العربية عمومًا نوعًا من الفحش والخنا والفجور والإسفاف لا يدخل في نطاق الأدب بحال.
فإذا حاولنا نقد هذه الرواية في ضوء اتجاهها الذي تنتمي إليه وهو الاشتراكية الواقعية بما تشتمل عليه من أسس ومبادئ مخالفة تمامًا لتعاليم الإسلام وقيم العروبة الأصيلة أقول: إذا حاولنا نقد هذه الرواية في ضوء اتجاهها الذي تنتمي إليه، فإننا نحكم باتساقها تمامًا مع هذا الاتجاه فإذا كان معيار الجودة والرداءة لعمل ما هو مدى اتساقه مع اتجاهه الذي ينتمي إليه بغض الطرف عن كون هذا الاتجاه جديرًا بالاحترام أم لا، أقول: إذا كان هذا هو المعيار.. لزمنا أن نحكم على هذه الرواية بالجودة من الناحية الفنية.
ولعل هذا ما لجأ إليه المدافعون عن هذه الرواية من جهة أنها إنما ثبت تلك الأفكار والمبادئ المنحرفة بل وتنال من الدين والذات المقدسة على لسان بطل شيوعي، فلا عليها إذًا أن تقذع في السب واللعن وأن تشفي غليلها من الدين والإله والرسل والقيم جميعًا مادام ذلك قد جاء متسقًا مع الاتجاه الذي تنتمي إليه.
ولكن فات هؤلاء النقاد أن يقيدوا حكمهم بالجودة على هذه الرواية بأنها جيدة للمخاطب الشيوعي فقط، وجيدة في واقع شيوعي فقط لا في واقع إسلامي ومن ثم، فإن ما ننادي به هو ضرورة أن ينظر الناقد بعين مجتمعه وبيئته، كما ينظر بعين المجتمع الإنساني كله وقيمه المشتركة، وهذا ما تمليه قواعد المنهج الاشتراكي الواقعي نفسه أن يكون الكاتب في خدمة قضايا وطنه ومجتمعه مدافعًا عن أفكار مجتمعه وعقيدته وقيمه، ولكن يبدو أن هذا الكاتب كان منتميًا لعقيدة سبه للدين والقيم مستقيم ومتسق جدًا مع عقيدته ومذهبه ولكن غير المستقيم ولا المتسق أن يدعي هذا الكاتب انتماءه لأصول عربية تعتز بدينها وقيمها ثم يعمل بعد ذلك في روايته على هدم هذه القيم.
والأكثر غرابة أن يحكم بعض النقاد بجودة الرواية أو سلامتها بناء على اتساقها مع منهج الكاتب متجاهلين أيديولوجية المخاطب العربي، فنحن هنا أمام اتجاهين للنظر النقدي.
الأول: هو الاتجاه الفني أو الشكلي الذي يعني بالنظر إلى مدى التطابق بين العمل الأدبي وأصوله الفنية التي ينتمي إليها.
والآخر: هو الاتجاه الفكري أو الموضوعي أو الأيديولوجي وهو الاتجاه الذي ينظر إلى مدى التطابق من الناحية الفكرية بين العمل الأدبي، و الاتجاه الفكري والعقدي للجماعة التي ينتمي إليها الكاتب ويخاطبها على وجه الخصوص.
وهنا قد تتفق النظرتان (الشكلية والموضوعية) في عمل ما فتحكم له بالجودة من جهة القيم الفنية أو الإنسانية المشتركة، ومن جهة النظرة القيمية الخاصة، إسلامية كانت أو غير ذلك، وقد تختلف النظرتان فيحكم للعمل بالجودة من جهة اشتماله على قيم فنية أو إنسانية مشتركة، ويحكم عليه بالرداءة من جهة اشتماله على ما يخالف القيم والتعاليم المحلية أو البيئية الخاصة.
بقي أن يقال أن الالتزام بالاتجاه النقدي الأيديولوجي يوقعنا في ورطة كبيرة بخلاف الالتزام بالاتجاه الفني أو الشكلي وذلك لأنه إذا كان من الممكن التوصل إلى مقاييس فنية أو شكلية مشتركة بين الآداب بحيث تأخذ سمة العالمية فإنه من المستحيل التوصل إلى مفاهيم أو أفكار أو أيديولوجيات واحدة أو حتى متقاربة يمكن أن تأخذ سمة العالمية، ومن ثمَّ يتم التحاكم إليها عالميًا.
بمعنى أن ما يحكم عليه من الوجهة الأيديولوجية في بيئة معينة بالرداءة أو السقوط يحكم عليه في بيئة أخرى مقابلة لتلك البيئة أو مضادة لها بالنجاح والتفوق! ونرجع للمثال السابق المضروب بالنسبة لوليمة أعشاب حيث إن الحكم عليها من الوجهة الأيديولوجية بالنسبة للمتدين يكون بالسقوط والرداءة، أما بالنسبة للملحد أو الشيوعي على وجه التحديد فإنه يحكم لها بالجودة والتفوق، وهذا يمثل إشكالية واضحة.
وأنا أقول إن حل هذه الإشكالية يكون في أمرين لا ثالث لهما:
الأول: هو إلغاء اعتبار القيم الدينية تمامًا وعدم التحاكم إليها. وهو أمر مستحيل، وإقراره كفر وخروج على الملة بلا خلاف.
الثاني: هو اعتبار القيم الدينية الخاصة بكل جماعة أو بيئة والتحاكم إليها من خلال نظرة بيئية محلية خاصة، بمعنى أننا لابد أن نحدد ضرورة من هو المخاطب بهذا العمل الأدبي، ولاشك أن لمعرفة المخاطب أثرًا كبيرًا في إصدار الحكم بنجاح هذا العمل الأدبي أو إخفاقه.
وقد كان الاحتفاء بحال المخاطب واضحًا جدًا في تراثنا البلاغي والنقدي إلى الحد الذي جعل البلاغيين والنقاد يهملون إلى حد كبير حال المتكلم مثلاًَ وأثره في تحقيق عملية مطابقة الكلام لمقتضى الحال الذي يعتبر جوهر البلاغة العربية.
وإذا كان الكلام – أي كلام – لا يحكم له بالبلاغة ولا الجودة والبراعة إلا إذا جاء مطابقًا لمقتضى الحال، وعلى الأخص حال المخاطب في تراثنا النقدي والبلاغي، فمعنى ذلك أن مثل هذه الأعمال محكوم عليها بالسقوط والرداءة حتمًا من وجهة نظر نقادنا القدامى الذين نعتز بآرائهم وأحكامهم النقدية، لا سيما ما كان محل اتفاق وإجماع لديهم، وليس مجرد رأي لأحدهم يخطي أو يصيب.
وتقرير هذا الأمر في تراثنا البلاغي لا يحتاج إلى كبير جهد، بل يكفي أن نورد فيه بعض الأمثلة الدالة عليه من تراثنا النقدي والبلاغي.
وهذا القول قد قال به معظم النقاد وفي مقدمتهم بشر بن المعتمر – الذي أورد الجاحظ صحيفته في كتاب البيان والتبيين – حين قال: "وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميًا وساقطًا سوقيًا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبًا وحشيًا، إلا أن يكون المتكلم بدويًا أعرابيًا، فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي وكلام الناس في طبقات"([16]).
وقد علل ابن سلام الجمحي للين شعر عدي بن زيد وسهولة منطقه بأنه "كان يسكن الحيرة ويراكز الريف"([17]).
وكذلك تفسير ابن الأثير لما تميز به شعر الشعراء المحدثين من ابتداع المعاني ولطف المأخذ ودقة النظر بأن هؤلاء قد "اتسع الملك الإسلامي في زمانهم، ورأوا ما لم يره المتقدمون"([18]).
وكذلك تعليل القاضي الجرجاني لاختلاف نمط التعبير الشعري من شاعر لآخر، وذلك حيث يقول: "وقد كان القوم يختلفون في ذلك، وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم ويصلب شعر الآخر ويسهل لفظ أحدهم، ويتوعر منطق غيره وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلقة، وأنت تجد ذلك ظاهرًا في أهل عصرك وأبناء زمانك، وترى الجلف منهم كز الألفاظ معقد الكلام وعر الخطاب.. ومن شأن البداوة أن تحدث بعض ذلك.. فلما ضرب الإسلام بجرانه،واتسعت ممالك العرب، وكثرت الحواضر، ونزعت البوادي إلى القرى. وفشا التأدب والتظرف اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله.."([19]).
أما في العصر الحديث: فقد نما هذا المنهج، وتعددت الدراسات التي اهتدت بمعالمه، ومن أبرز هذه الدراسات: "ذكرى أبي العلاء" للدكتور طه حسين، وكتب "فجر الإسلام – ضحى الإسلام – ظهر الإسلام" للدكتور أحمد أمين، و"النثر الفني في القرن الرابع" للدكتور زكى مبارك" و"التيارات الفكرية التي أثرت في دراسة الأدب" للدكتور محمد خلف الله، و"النقائض في الشعر العربي" للأستاذ أحمد الشايب، وغيرها.
فالبيئة لها تأثير لا ينكر، وهذا معروف ومتقرر، وهناك منهج معروف من المناهج النقدية يقوم على اعتبار أثر البيئة والظروف السياسية والاجتماعية واعتبارات الجنس والبيئة والتاريخ عمومًا في الأحكام النقدية، ومن رواده الغربيين المعروفين، الناقد الفرنسي "هيبوليت تين".
ومن ثم نخلص من ذلك إلى أن هناك نوعين من الحكم النقدي يمكن أن نصدرهما معًا على أي عمل من الأعمال الأدبية، هما: الاتجاه الفني أو الشكلي، والاتجاه الفكري أو الأيديولوجي.
ونلاحظ أن الاتجاه الفني أو الشكلي، لا تحكمه قيود الجنس أو البيئة أو الفكر أو الدين...إلخ بل كل ما يعنى به هو النظر في مدى التطابق بين العمل الأدبي وأصوله الفنية التي ينتمي إليها.
وهذا الاتجاه يمكن التوصل فيه إلى مقاييس نقدية عالمية أو إنسانية موحدة – وهذا حلم ننادي بتحقيقه – فإذا لم يتحقق ذلك؛ فإن قياس العمل الأدبي – أيًّا كان هذا العمل – في ضوء الاتجاه الفني الذي ينتمي إليه أمر معترف به، ويقره جميع النقاد، ولا يلزمون أديبًا أو ناقدًا بغير الأصول الفنية التي ارتضيها وذهب إليها.
وإذا كان ذلك كذلك فنقول: إذا كنتم لا تلزمون أديبًا أو ناقدًا بغير الاتجاه الفني الذي ارتضيه، ولا تعيبون عليه أي مذهب يختار من المذاهب الفنية المعروفة، فلم تعيبون على الناقد أي يختار لنفسه مذهبًا فكريًا أو عقائديًا (أيديولوجيًا) معينًا يرتضيه ويتخذه مذهبًا نقديًا ومقياسًا يقيس إليه الفكر الأدبي؟!
وإذا كنا قد قدمنا في تعريف الأدب أن قوامه عنصران هما: الفكرة والقالب الفني، وأبحنا للأديب أن يختار ما يشاء من القوالب الفنية والمذاهب الأدبية وأبحنا للأديب كذلك أن يعبر عما يشاء من الأفكار عاطفية كانت أم فلسفية أم دينية...إلخ.
فلم نمنع الناقد إذًا من أن يتخذ لنفسه مذهبًا فكريًا أو عقيدة دينية، يجعلها مقياسًا للفكر وحاكمًا عليه وناقدًا له.
إن هذه قسمة طبيعية لا جور فيها – بل الجور كله فيما يخالفه – وهي أنه إذا كان الأدب: فكرة وشكلاً فيكون النقد كذلك: نقدًا فكريًا، ونقدًا شكليًا.
وينبغي ألا يطغى أحدهما على الآخر، فلا يطغى النقد الفكري على النقد الشكلي، ولا العكس.
وهذا ما تحقق فعلاً في المبادئ الإسلامية التي قررها القرآن وقررتها السنة النبوية، وتطبيقات الخلفاء الراشدين في أحكامهم النقدية التي وازنت بين الجانبين العقدي أو الفكري، والشكلي أو الفني.
وسوف نعرض هنا أولاً لموقف الإسلام من الشعر ذلك الموقف الذي يعتبر الأساس أو المرجع للأحكام النقدية التي صدرت على الشعر في عصر صدر الإسلام بما يمثل لا أقول نظرية نقدية قابلة للأخذ والرد، بل يمثل مبادئ سامية خالدة تقرر الأسس الصحيحة للنقد الإسلامي على مر العصور.
الإسلام وفن القول:
لم يقف الإسلام من الشعر الجيد موقف معارضة أو عداء، فما أكثر الروايات الدالة على سماع النبي r للشعر، واستحسانه إياه، واغتباطه به، وحثه عليه، كما كان للخطابة في عصر صدر الإسلام – بدءًا من بعثة النبي r - قيمتها ومكانتها.
عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله r: "إن من البيان لسحرًا"([20]).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله r: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"([21]).
وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه – رضي الله عنه – قال: ردفت رسول الله r يومًا فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء" قلت: نعم. قال: "هيه" فأنشدته بيتًا. فقال: "هيه" ثم أنشدته بيتًا فقال: "هيه" حتى أنشدته مائة بيت([22]).
وعن جندب – رضي الله عنه – أن النبي r كان في بعض المشاهد وقد دميت أصبعه قال:
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت([23])
وعن البراء – رضي الله عنه – قال: قال النبي r يوم قريظة لحسان بن ثابت: "أُهج المشركين، فإن جبريل معك" وكان رسول الله r يقول لحسان: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس".([24])
وعن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله r قال: "أُهجوا قريشًا؛ فإنه أشد عليهم من رشق النبل".([25])
وعنها – رضي الله عنها – قالت: سمعت رسول الله r يقول لحسان: "إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله".
وقالت: سمعت رسول الله r يقول: "هجاهم حسان فشُفي واشتفى".([26])
وعن البراء – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله r ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه يقول:
والله لولا الله ما اهتدينافأنزلن سكينة عليناإن الألى قد بغوا علينا
ولا تصدقنا ولا صليناوثبت الأقدام إن لاقيناإذا أرادوا فتنة أبينا
يرفع بها صوته: "أبينا أبينا".([27])
وعن أنس – رضي الله عنه – قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق وينقلون التراب وهم يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدًا
على الجهاد ما بقينا أبدًا
يقول النبي r وهو يجيبهم:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة([28])
وعن كعب بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال للنبي r: "إن الله تعالى قد أنزل في الشعر ما أنزل". فقال النبي r: "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونه به نضج النبل"([29]).
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله r يضع لحسان منبرًا في المسجد يقوم عليه قائمًا، يُفاخر عن رسول الله r، أو يُنافح. ويقول رسول الله r: "إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله r"([30]).
وعن أنس – رضي الله عنه – قال: كان للنبي حاد يقال له: أنجشة، وكان حسن الصوت. فقال له النبي r: "رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير". قال قتادة: يعني ضعفة النساء([31]).
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: ذُكر عند رسول الله r الشعر فقال رسول اللهr: "هو كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح"([32]).
إن الذي يقف على هذه النصوص لا يكاد يشك طرفة عين في أن للشعر وغيره من فنون القول منزلة كبيرة في الإسلام وهذا يفسر لنا أن ما ورد من ذم الشعر في بعض النصوص القرآنية أو النبوية ليس ذمًا للشعر على الإطلاق، وإنما هو للقبيح فقط من الشعر.
وهذا ما نستطيع أن نتبينه من خلال النظر في تلك النصوص التي تحمل ذمًا للشعر والشعراء.
فمن ذلك: قول الله تعالى في آخر سورة الشعراء: }وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ(226) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ{([33]).
وقوله تعالى في سورة ق: }وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ(16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ(17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ {([34]).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال رسول الله r: "لأن يمتلئ جوف رجل قيحًا حتى يَرِيَهُ([35]) خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا"([36]).
وعن أبي أمامة – رضي الله عنه – عن النبي r قال: "الحياءُ والعيُ شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق"([37]).
وعن أبي ثعلبة الخشني – رضي الله عنه – أن رسول الله r قال: "إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا وإن أبعدكم مني، مساويكم أخلاقًا، الثرثارون، المتشدقون، المتفيقهون"([38]).
وروى الترمذي نحوه عن جابر – رضي الله عنه – وفي روايته قالوا: يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون".
وعن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله r: "لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقرة بألسنتها"([39]).
وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه – أن رسول الله r قال: "إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة بلسانها"([40]).
وعن أنس - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله r: "مررت ليلة أُسري بي بقوم تُقْرَضُ شفاههم بمقاريضَ من النار، فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون"([41]).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله r: "من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال أو الناس، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً"([42]).
وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه – أنه قال يومًا وقام رجل فأكثر القول فقال عمرو: لو قصد في قوله فكان خيرًا له، سمعت رسول الله r يقول: "لقد رأيت أو أمرت – أن أتجوز في القول، فإن الجواز هو خير"([43]).
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: ذُكر عند رسول الله r الشعر فقال رسول اللهr: "هو كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح"([44]).
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه – قال: بينما نحن نسير مع رسول الله r بالعرج إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله r: "خذوا الشيطان، أو أمسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف رجل قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا"([45]).
إن هذه النصوص التي تستحسن الشعر وتمدحه وتلك التي تستهجنه وتذمه ليس بينها أدنى تعارض على الإطلاق، لأن كل طائفة منها موجه إلى نوع معين من الشعر غير النوع الآخر، وهذا ما تصرح به بعض النصوص الواضحة المحكمة التي جمعت بين طرفي القضية، فقد ذكر عند رسول الله r الشعر فقال: "هو كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح" هذا هو القول الفصل.
ولكن ما هي مقاييس الحسن والقبح؟
وما هي مقاييس الجودة والرداءة للشعر في الإسلام؟
هذا ما يمكننا أن نجيب عنه من خلال تحليل تلك النصوص السابقة، لنخرج بنظرية نقدية إسلامية متكاملة المعالم، تحقق للمسلمين السعادة الكبرى في الدنيا والآخرة إذا ما التزم بها شعراؤها ومبدعو القول فيها.
إذا نظرنا في هذه النصوص التي تمثل موقف الإسلام من الشعر ومن القول عمومًا، فإننا نجد أنفسنا أمام طائفتين من النصوص:
الأولى: نصوص يستفادُ منها إباحة الشعر بل وإستحسانه أو وجوبه في بعض الأحيان.
الثانية: نصوص يفهم منها كراهية الشعر أو حرمته في بعض الأحيان كذلك.
والمنهج الصحيح في التعامل مع النصوص الشرعية هو العمل بها جميعًا ومحاولة التوفيق بينها عندما يبدو هناك تعارض ظاهري مظنون.
ومعنى ذلك أن نقول إن هذه النصوص جميعًا لا تعارض بينها فيما تؤدي إليه من أحكام أو نتائج.
فالشعر مباح إذا لم يشتمل على إثم كهجاء أعراض المسلمين أو الغزل الفاحش أو مدح الرجل بما ليس فيه، أو العصبية الجاهلية والفخر القبلي الجاهلي بالأحساب والأنساب، فهذا كله ونحوه حرام، فإذا لم يشتمل الشعر على شيء من ذلك فهو مباح على أقل تقدير، إن لم يكن مستحسنًا مندوبًا إليه.
فإذا كان هذا الشعر تأملات في الكون يستدل بها على قدرة الله تعالى ووحدانيته وصفاته، أو تعبيرًا عن القيم والأخلاق الفاضلة ومدح واستحسان لها، وذم للقبيح والرديء منه، فهذا الشعر مستحسن مندوب إليه في الإسلام إن لم يرتق إلى مرتبة الواجب.
فإن كان دفاعًا عن أعراض المسلمين، وانتصارًا للدين وبيانًا للعقيدة، ومعالم الإسلام وأركانه وقيمه، فهذا لاشك واجب مطلوب فعله من القادر عليه من الأمة، وهو من الواجب الكفائي الذي إن قام به البعض سقط عن الباقين، وإلا أثمت الأمة كلها بتركه.
فهذا حكم الأدب الإسلامي الراقي الذي يدافع عن الدين والعقيدة والقيم وحرمات المسلمين حكمه أنه واجب كفائي، تأثم الأمة بتضييعه، وفاعله مثاب عليه أعظم الثواب لأنه يرفع بذلك الإثم عن الأمة بتصديه لهذا الأمر دونهم وكفاية الأمة في هذا الجانب.
وبناء على ذلك يمكننا أن نفهم آية الشعراء، فهي لا تحمل ذمًا على الإطلاق للشعر والشعراء.
فالشعراء الذين يتبعهم الغاوون، والذين قال فيهم النبي r: "لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا يريه خير من أن يمتلئ شعرًا" والشاعر الذي قال عنه النبي r: "خذوا الشيطان" أو "أمسكوا الشيطان" حينما سمعه ينشدهم أولئك الشعراء الذين يخوضون في الشعر المحرم من هجاء أعراض المسلمين، والفخر بالأحساب والأنساب والغزل الفاحش، ومدح الرجل بما ليس فيه ونحو ذلك فهؤلاء هم الغاوون، وأتباعهم هم الغاوون الضالون كذلك.
فالله سبحانه وتعالى حينما ذم الشعراء لم يجعل هذا الحكم مطلقًا أو مبهمًا غير مفسر ولا معلل، بل أتبعه عقب ذلك بالتحليل والبيان، فقال: ]أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ[([46]).
فكأن هذه هي سمات الشعر المذموم، وسمات الشعراء المذمومين، وهم الذين يخوضون في كل واد وفي كل غرضٍ حلال أو حرام، ويهيمون فيه.
وهمُ الكذبة الفجرةُ الذين يقولون ما لا يفعلون مما لا يعتقدونه، فشعرهم نفاق وتملق وكذب، والقرآن إنما يريد فقط الصدق الاعتقادي لا الصدق الواقعي في الشعر، فهذا أمر آخر، فالمطلوب من الشعر ليس هو الصدق في مطابقة الواقع مطابقة حرفية وإنما المقصود منه هو الصدق الفني الذي يصدر عن شعور صادق وإحساس حقيقي بما يقول، وذلك لا يكون إلا بصدق الاعتقاد وصحته.
والقرآن حيث يصدر حكمه بذم الشعراء المتصفين بهذه الصفات فإنه يتبع هذا الذم باستثناء طائفة الشعراء المؤمنين الذين آمنوا بالله تعالى وعملوا الصالحات فالتزموا بالفرائض واجتنبوا النواهي والمحارم، وذكروا الله كثيرًا، فلم يغلب عليهم الشعر ولم يلههم عن ذكر الله وعن الصلاة، وانتصروا بشعرهم فوظفوه لخدمة دينه والدفاع عنه والذب عن حرماته، وبيان العقيدة الصحيحة الناصعة والقيم والأخلاق الإسلامية الأصيلة.
وهذا واضح في هذا الاستثناء المفصل المبين: ]إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا…[([47]). ومن هنا نعلم أن هذه النصوص القرآنية والحديثية ليس بينها ثمة تعارض، لأن كل طائفة منها إنما تنزل على نوع من الشعر، وليست مطلقة في جميع أنواعه.
ومن ثم فإن الشعر ترد عليه الأحكام التكليفية الخمسة فتارة يكون واجبًا وتارة يكون مستحبًا أو مندوبًا إليه، وتارة يكون مباحًا، وتارة يكون مكروهًا، وأخرى يكون حرامًا. والأساس الجوهري الذي يصنف الشعر على أساسه ويعطي حكمه من حيث الحل والحرمة هو الفكرة التي يشتمل عليها هذا الشعر، ومن ثم ندرك أن الإسلام ينظر إلى الشعر لا باعتباره شكلاً مجردًا، ولكنه يولي اهتمامًا كبيرًا لشقه الثاني وهو الفكرة التي يحتويها القالب الفني، وعلى أساس هذه الفكرة يصدر شطر الحكم النقدي، أقول شطر الحكم ولا أقول كله لأن الشعر له شقان أو عنصران هما الفكرة والقالب الفني والإسلام لم يهمل الحكم على الشكل على حساب المضمون بل أعطى لكل نصيبه من الحكم بميزان عدل لا يبخس الناس شيئًا.
ومن خلال تلك النصوص السابق عرضها نستطيع أن نقف على أهم مبادئ الأحكام النقدية الإسلامية.
أولاً: سمو الغاية
صحة الغاية أو المقصد هي الركن الركين، وهي الشرط الأعظم لقبول جميع الأعمال في الإسلام، وهذا المبدأ تقرره نصوص كثيرة في الكتاب والسنة، أوضحها الحديث المشهور: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
فجميع الأعمال (والأقوال كذلك، لأن القول عمل) لا تصح ولا يثاب المرء عليها إلا بالنية الصالحة التي يبتغي بها وجه الله تعالى وعظم أجره وفضله في الدنيا والآخرة.
هذه الغاية هي التي تحدد أغراض الشعر في الإسلام، فلابد أن تكون تلك الأغراض أغراضًا شريفة، ذات هدف نبيل، وغاية عالية، يبتغي بها الأجر من الله تعالى وحده، ويتخذ فيها الشعر سلاحًا يجاهد به في سبيل الله، إن اللسان والسنان قرينان في الإسلام وسلاحان حميمان لا يفترقان، فالشاعر أو الأديب الإسلامي هو وحامل السيف في سبيل الله سواء، كلاهما يجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله.
ويظهر ذلك بوضوح تام في استثنائه تعالى هؤلاء الشعراء المسلمين المجاهدين من جملة الشعراء المذمومين في قوله تعالى: ]إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا…[([48]).
إن الغاية إذًا من الشعر في الإسلام هي الانتصار لهذا الدين وهذا ما يظهر واضحًا في حث النبي r حسان على هجاء المشركين، وهذه الغاية السامية يمكن أن تتخذ أغراضًا شعرية متنوعة.
فقد يكون مدحًا أو ثناء على الله تعالى، أو مدحًا لرسوله r أو مدحًا لشريعة الإسلام وتعاليمها الغراء أو مدحًا للخلق القويم، والسلوك النبيل.
وقد تكون هجاء للشرك والمشركين، وما هم عليه من أحكام وأعراف وتقاليد مخالفة لما جاء به الإسلام.
وقد تكون وصفًا لآيات الله الكونية، ودلائل قدرته الوجودية.
وقد تكون رثاء لعظماء الإسلام وأبطاله المجاهدين في سبيله.
وقد تكون فخرًا بقيم هذا الدين وتعاليمه، وفضل الله تعالى على أصحابه وتكريمهم بالقرآن الكريم، والرسول الأمين، والفضل العظيم، والنصر المبين في الدنيا والآخرة.
وهذه الغاية النبيلة وهي الانتصار لهذا الدين، لا تكاد تضيق عن غرض من الأغراض، إذا ما التزم المبدع بأحكام الإسلام وتعاليمه في فن القول.
وأقصى ما يتصور بعده عن تلك الغاية غرض كغرض الغزل مثلاً، يمكن أن يجد الشاعر الإسلامي له مندوحة فيه في التغزل العفيف بالمرأة المسلمة بما هي عليه من عفة وقيم إسلامية رفيعة.
أما ما كان على سبيل الهُيام البحت وبث الأشواق ومكابدة الحنين فلا مانع في ذلك كله بشرط أن لا يتعدى تلك الرفيقة التي يرتبط بها الشاعر بعلاقة الزواج ليس إلا.
ولا يجوز إشاعة شيء من ذلك ولا نشره ولا إطلاع الناس عليه، لأنه ضد الغاية التي نيط بها الشعر وسائر فنون القول في الإسلام، وهذا يجرنا إلى الشرط الثاني.
ثانيًا: السلامة من الإثم
إذا كان سمو الغاية وصحتها هو الشرط الأول لقبول الأعمال والأقوال؛ فإن الشرط الثاني هو صحة هذه الأعمال والأقوال وعدم فسادها، والمقصود بالصحة أن تكون هذه الأعمال والأقوال موافقة لأحكام هذا الدين الحنيف.
وفيما يختص بفنون القول في هذا الشرط ترد هذه النصوص الكريمة:
1- ]يأيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[([49]).
2- ]مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[([50]).
3- قوله r: "البذاء والبيان شعبتان من النفاق".
4- قوله r: "إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مساوئكم أخلاقًا".
إن الإسلام قد أمر بالقول السديد وهو القول الصائب النافع، الذي يكون إما أمرًا بمعروف أو نهيًا منكرًا أو ذكر الله تعالى، وذلك لأن المرء يحاسب على كل لفظ يتلفظ به، فما من كلمة ينطق بها إلا ويتلقفها ملكان حاضران لا يغنيان عنه طرفة عين.
ويحسم النبي r هذه القضية في وضوح تام حيث يقول: "كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو ذكر الله تعالى"([51]).
ومن ثم لا يذم النبي r البيان مطلقًا، بل يذمه إذا كان مقترنًا بالبذاء فيجعلهما حينئذ شعبتين من النفاق.
ومن ثم فالغزل الفاحش، والهجاء الفاحش، والمدح الباطل، والهيام في الوصف بلا طائل ولا غرض صحيح كل ذلك مما يحاسب المرء عليه، ومن ثم ينبغي عليه أن يتجنبه في كلامه شعرًا كان أو نثرًا، أدبًا كان أو كلامًا ككلام الناس فيما بينهم.
ثالثًا: وضح الهوية الإسلامية
يتضح ذلك واضحًا في قوله تعالى: ]إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا…[([52]).
فالأديب المسلم شاعرًا كان أو ناثرًا لابد أن يتميز بهويته الإسلامية الواضحة، فهو مؤمن بالله تعالى، ذاكرًا له، منتصرًا لقصده، ولابد أن يظهر ذلك واضحًا في أدبه بحيث يتميز بذلك عن غيره.
فهذا هو النبي r ينشده كعب لأميته الشهيرة التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
حتى يبلغ قوله:
إن الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف الهند مسلول
فينكر عليه النبي r قول: "من سيوف الهند" فيجعلها "من سيوف الله".
إن النبي r حريص على ألا يتميع الشاعر أو الأديب ولا يذوب في غيره، لأن أدبه وشعره إنما هو عنوان حضارة هذا الدين ومجده، فلابد أن يحمل هويته الإسلامية ويعبر عنها بكل عز وافتخار.
رابعًا: الصدق في الأداء
المراد بصدق هنا هو صدق الأداء، وصدق الشعور أو هو الصدق الفني، فاشتراط الصدق هنا لا يمنع المبالغة الفنية الطريفة التي يؤيد بها الشاعر قضيته، ويخدم بها أغراضه الفنية.
فالصدق هنا إنما هو صدق الإرادة، والشعور، ومن ثم فقد ذم الله تعالى الشعراء الذين ]يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ[([53]).
فهؤلاء إنما يتكلمون بلا تجربة ولا معاناة، وذلك يأتي لنحوهم تكلفًا مذمومًا.
إن الصدق هنا يعني أن يكون الشاعر ملتزمًا بالمبادئ التي يدعو إليها، ويكفي في ذلك مجرد الالتزام الخلقي الإرادي الداخلي، فمعنى الصدق هذا هو القناعة الذاتية للشاعر أو المبدع بما يدعو إليه من مبادئ وقيم، وهذا يرتبط بالشرط الأول؛ لأن الشاعر أو الأديب إذا لم يكن صاحب غاية سامية فلن يكون صادقًا في قوله، بل يكون قوله مجرد زخرف يريد أن يصرف به وجوه الناس إليه، وفيه قال رسول الله r: "من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال أو الناس، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً"([54]).
خامسًا: ترك التكلف
تلك النقطة السابقة ترتبط بالضرورة بهذه النقطة، فالصدق في التجربة والشعور بالمدى بالضرورة ترك المكلف في الأداء، ولأن القول حينئذ سوف ينشأ عن طبع موات، وقريعة منقدة، ونفس ثائرة مشتملة ومن ثم فقد نفى الله تعالى عن نبيه r التكلف، في قوله تعالى: ]وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ[([55])، وسمع النبي r رجلاً يتكلم بالسجع ويتكلفه بغير ضرورة فزجره قائلاً: أسجعنا كسجيع الكهان؟!
وقد ورد فيما سقناه من النصوص كثير من الأحاديث النبوية التي ينهى فيها النبي r عن الثرثرة والتشدق والتفيهق.
والتشدق هو التقعر في الكلام وتكلف السجع والفصاحة فيه([56])، والتفيهق هو ملء الفم بالكلام.


سادسًا: روعة الأداء
يشترط بعد ذلك كله روعة الأداء، وبراعة التصوير، وجمال العرض، وحسن اللفظ…إلخ.
فكل ما يساعد على إقناع المتلقي بالفكرة، وعرضها في أحسن صورة فهو مطلوب، والإسلام يحث عليه، ومن ثم فقد قال النبي r قولته السائرة المشهورة: "إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرًا وقد كان الشعراء في زمان النبي r يلتزمون صون الأصول الفنية التي تواضع عليها العرب في شعرهم، ولم ينكر النبي r عليهم شيئًا من ذلك، بما في ذلك المقدمة الغزلية التي كانوا يبدأون بها القصائد جلبًا للأسماع وجذبًا للقلوب، ما لم يكن ذلك الغزل فاحشًا، ومادام هذا الغزل، موظفًا للمقصود فهو وسيلة لا غرو في نفسه، وهو مقيد بكونه من الغزل العفيف المباح لا من الفاحش الصراح، ومن ثم فقد استمع النبي r قصيدة كعب بن مالك، ولم ينكر على كعب مقدمتها الغزلية التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
وكم لحسان بن ثابت – رضي الله عنه – شاعر الرسول r من قصائد جرت على هذا النحو، ولم تستنكر عليه، من ذلك قصيدته المشهورة التي مطلعها:
منع النوم بالعشاء الهموممن حبيب أصاب قلبك منيا لقومي هل يقتل المرء مثليهمها العطر والفراشلو يدب الحولي من ولد الذر
وخيال إذا ما تغور النجوموهن فهو داخل مكتومواهن البطش والعظام سئومويعلوها لجين ولؤلؤ منظومعليها لأندبتها الكلوم
ومن ثم يتبين أن الإسلام قد قدم نظرية نقدية أدبية متكاملة راعي فيها جودة الشكل والمضمون، وارتقى بها بالأدب إلى قمة سامقة جعلت له رسالة خالدة لا تنتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
موقف نقادنا القدامى من القضية:
أولاً: رسالة الأدب في تراثنا النقدي
نستطيع أن نقف على تلك الرسالة السامية التي قررها القرآن وقررتها السنة النبوية من خلال الوقوف على بعض النصوص التي تحفل بها كتب التراث النقدي لنعرف إلى أي مدى كان للأدب رسالة وقيمة إنسانية لدى هؤلاء القدماء. قال أبو الحسن: محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي في كتابه عيار القر: "وعيار الشعر أن يورد على الفهم الثاقب، فما قبله واصطفاه فهو واف، وما مجَّه([57]) ونفاه فهو ناقص. والعلة في قبول الفهم الناقد للشعر الحسن الذي يرد عليه، ونفيه للقبيح منه، واهتزازه لما يقبله، وتكرُّهِهِ لما ينفيه، أن كل حاسة من حواس البدن إنما تتقبل ما يتصل بها مما طُبعت له إذا كان وروده عليها ورودًا لطيفًا باعتدال لا جور فيه، وبموافقة لا مضادة معها، فالعين تألف المرأى الحسن، وتقذي([58]) بالمرأى القبيح الكريه، والأنف يقبل المشم الطيب، ويتأذى بالمنتن الخبيث، والفم يلتذ بالمذاق الحلو، ويمج البشع المر، والأذن تتشوف([59]) للصوت الخفيض الساكن وتتأذى بالجهير الهائل، واليد تنعم بالملمس اللين الناعم، وتتأذى بالخشن المؤذي. والفهم يأنس من الكلام بالعدل والصواب الحق، والجائز المعروف المألوف، ويتشوف إليه، ويتجلى له، ويستوحش من الكلام الجائر، والخطأ الباطل، والمحال المجهول المنكر، وينفر منه، ويصدأ له.
فإذا كان الكلام الوارد على الفهم منظومًا، مصفى من كدر العي، مقومًا من أود الخطأ واللحن، سالمًا من جور التأليف، موزونًا بميزان الصواب لفظًا ومعنى وتركيبًا اتسعت طرقه، ولطفت موالجه([60])، فقبله الفهم وارتاح له، وأنس به. وإذا ورد عليه على ضد هذه الصفة، وكان باطلاً محالاً مجهولاً، انسدت طرقه ونفاه واستوحش عند حسه به، وصدئ له، وتأذى به، كتأذى سائر الحواس بما يخالفها على ما شرحناه.
وعلة كل حسن مقبول الاعتدال، كما أن علة كل قبيح منفي الاضطراب والنفس تسكن إلى كل ما وافق هواها، وتقلق مما يخالفه، ولها أحوال تتصرف بها، فإذا ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها اهتزت له وحدثت لها أريحية وطرت، فإذا ورد عليها ما يخالفها قلقت وأستوحشت.
وللشعر الموزون إيقاع بطرب الفهم لصوابه ويرد عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه. فإذا اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة المعنى وعذوبة اللفظ فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر([61]) تم قبوله له، واشتماله عليه، وإن نقص جزء من أجزائه التي يحمل بها وهي: اعتدال الوزن، وصواب المعنى، وحسن الألفاظ، كان إنكار الفهم إياه على قدر نقصان أجزائه، ومثال ذلك الغناء المطرب الذي يتضاعف له طرب مستمعه، المتفهم لمعناه ولفظه مع طيب ألحانه. فأما المقتصر على طيب اللحن منه دون ما سواه فناقص الطرب. وهذه حال الفهم فيما يرد عليه من الشعر الموزون مفهومًا أو مجهولاً. وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفة عند الفهم لا تحد كيفيتها: كمواقع الطعوم المركبة الخفية التركيب اللذيذة المذاق، وكالأراييح([62]) الفائحة المختلفة الطيب والنسيم، وكالنقوش الملونة، والتقاسيم والأصباع، وكالإيقاع المطرب المختلف التأليف، وكالملامس اللذيذة الشهية الحس، فهي تلائمه إذا وردت عليه – أعني الأشعار الحسنة للفهم – فيلتذها ويقبلها، ويرتشفها كارتشاف الصديان([63]) للبارد الزلال، لأن الحكمة غذاء الروح، فأنجع الأغذية ألطفها. وقد قال النبي r: "إن من الشعر حكمة" وقال - عليه السلام -: "ما خرج من القلب وقع في القلب، وما خرج من اللسان لم يتعد الآذان". فإذا صدق ورود القول نثرًا ونظمًا أثلج صدره. وقال بعض الفلاسفة: "إن للنفس كلمات روحانية من جنس ذاتها".. وجعل ذلك برهانًا على نفع الرقي ونجعها فيما تُستعمل له.
فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللفظ، التام البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح ولاءم الفهم، وكان أنفذ من نفث السحر، وأخفى دبيبًا من الرقى، وأشد إطرابًا من الغناء، فسل السخائم([64])، وحلل العقد، وسخى الشحيح، وشجع الجبان، وكان كالخمر في لطف دبيبه وإلهائه، وهزه وإثارته. وقد قال النبيr: "إن من البيان لسحرًا".
علة أخرى:
ولحسن الشعر وقبول الفهم إياه علة أخرى وهي موافقته للحال التي يعد معناه لها؛ كالمدح في حال المفاخرة، وحضور من يكبت بإنشاده من الأعداء، ومن يسر به من الأولياء. وكالهجاء في حال مباراة المهاجى، والحط منه حيث ينكى فيه استماعه له. وكالمراثي في حال جزع المصاب، وتذكر مناقب المفقود عند تأبينه، والتعزية عنه. وكالاعتذار والتنصل من الذنب عند سل سخيمة المجني عليه، المعتذر إليه. وكالتحريض على القتال عند التقاء الأقران وطلب المغالبة. وكالغزل والنسيب عند شكوى العاشق، واهتياج شوقه وحنينه إلى من يهواه.
صدق العبارة:
فإذا وافقت هذه المعاني هذه الحالات، تضاعف حسن موقعها عند مستمعها، لاسيما إذا أيدت بما يجذب القلوب من الصدق عن ذات النفس يكشف المعاني المختلجة فيهان والتصريح بما كان يُكتم منها، والاعتراف بالحق في جميعها.
والشعر هو ما إن عري من معنى بديع لم يعر من حسن الديباجة. وما خالف هذا فليس بشعر. ومن أحسن المعاني والحكايات في الشعر وأشدها استفزازًا لمن يسمعها، الابتداء بذكر ما يعلم السامع له إلى أي معنى يساق القول فيه قبل استتمامه، وقبل توسط العبارة عنه، والتعريض الخفي الذي يكون بخفائه أبلغ في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر دونه. فموقع هذين عند الفهم كموقع البشرى عند صاحبها لثقة الفهم بحلاوة ما يرد عليه من معناهما.
تعقيب على النص
من خلال هذا النص نستطيع أن نقف على وظيفة الشعر وغايته، أو رسالة الأدب عمومًا عند ابن طباطا العلوي، فهو يقرر ابتداء "أن الفهم يأنس من الكلام بالعدل والصواب الحق، والجائز المعروف المألوف، ويتشوف إليه، ويتجلى له، ويستوحش من الكلام الجائر، والخطأ الباطل، والمحال المجهول المنكر، وينفر منه، ويصدأ له.
فإذا كان الفهم -وهو الآلة التي يحكم بها على الشعر- إنما يأنس بالكلام العدل والصواب الحق، ويستوحش من الكلام الجائر والخطأ الباطل، لازم ذلك أن تكون المعاني مما يقبلها الفهم العربي ويلذ بها، ويأنس لها، وهذا يعني وجوب ترك الشاعر لما ليس بعدل ولا صواب حق أو ما هو جائر باطل.
كما يرى أن الأشعار الحسنة هي التي تلائم الفهم بما لها من إيقاع حسن يجعل القارئ أو السامع يطرب لها "فيلتذها ويقبلها، ويرتشفها كارتشاف الصديان([65]) للبارد الزلال، لأن الحكمة غذاء الروح، فأنجع الأغذية ألطفها. وقد قال النبي r: "إن من الشعر حكمة" وقال - عليه السلام -: "ما خرج من القلب وقع في القلب، وما خرج من اللسان لم يتعد الآذان". فإذا صدق ورود القول نثرًا ونظمًا أثلج صدره. وقال بعض الفلاسفة: "إن للنفس كلمات روحانية من جنس ذاتها".. وجعل ذلك برهانًا على نفع الرقي ونجعها فيما تُستعمل له.
وقد يرى البعض أن الكلام السابق ليس صريحًا في تقرير الغاية الأخلاقية للشعر أو الأدب عمومًا، إذ قد يكون المقصود بالعدل والصواب، وما هو عدل وصواب من الناحية اللغوية أو التعبيرية أو المنطقية البحتة؛ فنقول إن هذا الاحتمال ليس مردودًا ولا باطلاً ولكن بقية كلام ابن طباطبا يؤكد الغاية الأخلاقية للشعر والأدب ويقررها بصراحة واضحة حيث يقول: "فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللفظ، التام البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح ولاءم الفهم، وكان أنفذ من نفث السحر، وأخفى دبيبًا من الرقى، وأشد إطرابًا من الغناء، فسل السخائم([66])، وحلل العقد، وسخى الشحيح، وشجع الجبان، وكان كالخمر في لطف دبيبه وإلهائه، وهزه وإثارته. وقد قال النبيr: "إن من البيان لسحرًا".
فالشاعر هنا يقرر صراحة أن الأدب الراقي اللطيف المعنى الحلو اللفظ التام البيان، المعتدل الوزن هو الذي ينفذ إلى الروح فيؤثر فيها بتلك الأدوات والوسائل التعبيرية، فكأن هذه الأدوات المذكور من المعنى اللطيف الدقيق وهو المعنى الفني الذي بالغ الشاعر في تصويره، مع حلو اللفظ وهو اللفظ الجيد المستساغ الذي اختاره الشاعر بعناية فائقة ليتسق مع معانيه، وليعبر عنها تمام التعبير فيكون تام البيان، مع الوزن المعتدل، وقد بين ابن طباطبا المقصود باعتداله من قبل وهو مناسبته للفهم واستقامته مع الغرض المسومة له فهذه كلها أدوات ووسائل ليس لها غاية عند هذا الناقد الحصيف إلا تلك الغاية الأخلاقية الراقية التي ينص عليها صراحة مقررًا أن الشعر الجيد المتصف بتلك الصفات هو ما (سل السخائم) أى الأضغان والأحقاد، و(حلل العقد) أي العقد النفسية، وهي تشمل كل ما انطوت عليه النفس البشرية من الغرائز السيئة الشريرة، و(سخي الشحيح) البخيل، فالشعر داع للكرم، حاث على الجود ومكارم الأخلاق، و(شجع الجبان) فالشعر هو الباعث على الشجاعة والمروءة، يثير النخوة والكرامة، فتغلي الرماء الحرة في عروق الأحرار، فتشتعل عزة ونخوة وكرامة وشجاعة، ويبين أن هذا هو المقصود بقول النبي r: "إن من البيان لسحرًا".
وقد روي أن معاوية - رضي الله عنه – قد همّ أن يفرّ في إحدى المعارك فتذكر قول عمرو بن الإطنابة:
أقول لها وقد طارت شعاعًافإنك لو سألت بقاء يومفصبرًا في مجال الموت صبرًاوما ثوب البقاء بثوب عز
من الأبطال ويحك لن تراعيعلى الأجل الذي لك لم تطاعيفما نيل الخلود بمستطاعفيطوى عن أخر الخنع البراع
فيقول: فما ثبت أقدامه يومئذ إلا تذكره لهذه الأبيات.
ويقرر ابن طباطبا أن هذه المثل الأخلاقية كانت موجودة عند العرب، وقد بنت عليها المدائح والأهاجي يقول ابن طباطبا: "وأما ما وجدته في أخلاقها وتمدحت به ومدحت به سواها، وذمت من كان على ضد حاله (فيه) فخلال مشهورة كثيرة: منها في الخلق الجمال والبسطة، ومنها في الخلق السخاء والشجاعة، والحلم والحزم والعزم...، والأنفة، والدهاء، وعلو الهمة، والتواضع...، وما يتفرع من هذه الخلال التي ذكرناها من قرى الأضياف، وإعطاء العفاة...، وكظم الغيظ، وفهم الأمور...، والإقدام على بصيرة، وحفظ الجار.
وأضداد هذه الخلال: البخل، والجبن، والطيش، والجهل والغدر، والاغترار، والفشل، والفجور، والعقوق، والخيانة، والحرص، والمهانة، والكذب، والهلع، وسوء الخلق...، والقبح، والدمامة...
ولتلك الخصال المحمودة حالات تؤكدها، وتضاعف حسنها، وتزيد في جلالة المتمسك بها، كما أن لأضدادها أيضًا حالات تزيد في الحط ممن وسم بشيء منها ونسب إلى استشعار مذمومها، والتمسك بفاضحها، كالجود في حال العسر موقعه فوق موقعه في حال الجدة، وفي حال الصحو أحمد منه في حال السكر، كما أن البخل من الواجد القادر أشنع منه من المضطر العاجز، والعفو في حال المقدرة أجل موقعًا منه في حال العجز...، والعفة في حال اعتراض الشهوات والتمكن من الهوى أفضل منها في حال فقدان اللذات، واليأس من نيلها، والقناعة في حال تبرج الدنيا ومطامعها أحسن منها في حال اليأس وانقطاع الرجاء منها".
وقد استمرت هذه الأخلاق في الشعر في صدر الإسلام بل زاد التمسك بها بتأثير تلك الروح الدينية السائدة في ذلك الوقت.
ولاشك أن الشعر الذي يكون بهذا الوصف، ويحمل هذه الغاية لن يكون شعرًا متكلفًا باردًا، فيقرر ابن طباطبا أن هذا الشعر لابد أن يصدر عن "صدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها، والتصريح بما كان يكتم منها، والاعتراف بالحق في جميعها".
فكأن هذا الناقد العربي القديم قد توصل إلى ما يسمونه اليوم بالتجربة الشعرية التي يمر بها الشاعر وتكون حاضرة في نفسه وقلبه ويصدق في التعبير عنها، فالصدق هنا ليس مرادًا منه الصدق الواقعي وإنما المقصود به صدق الإرادة والانفعال أو الصدق الشعوري العاطفي، والمعادل له في المبادئ الإسلامية النقدية هو صدق الإرادة والمبادئ والالتزام بالقيم الأصيلة الثابتة المستقرة في الفطرة السليمة النقية، ولا جرم أن هذه القيم التي جاء بها الإسلام لا تختلف فيها الشرائع السماوية جميعها، ولا تكاد تختلف فيها كذلك فطر النفوس الإنسانية بعامة إذا خلى بين الإنسان وفطرته الأصيلة النقية، وعاد إلى نفسه متجردًا من آفات الهوى وعلائقه وعوائقه.
ويرى بعض الباحثين أن ابن طباطبا يقصد في هذا النص الصدق الواقعي لا مجرد الصدق الفني فيقول: "إن ابن طباطبا يربط بين الشعر والقيم الخلقية – الصدق والحق – فيرى أن مما يزيد من حسن الشعر لدى مستمعه أن يؤيد بما يجلب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها والتصريح بما كان يكتم منها، والاعتراف بالحق في جميعها. وقد يكون المقصود بالصدق هنا الصدق الفني بأني عبر الشاعر عما يحسه من مشاعر وأحاسيس عاشها في واقعه، أو أن يعبر عن مشاعر وأحاسيس تخيلها ولم يعشها في حياته. لكن هناك إشارة وردت قبل النص السابق مباشرة تدلنا على أن المقصود بالصدق لدى ابن طباطبا الصدق بمفهومه الأخلاقي، فهو يفرق بين الشعراء في عصره والشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام، فيرى أن الفرق بينهم كبير فهؤلاء "كانوا يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد للصدق فيها مديحًا وهجاء، وافتخارًا ووصفًا، وترغيبًا وترهيبًا إلا ما قد احتمل الكذب فيه في حكم الشعر من الإغراق في الوصف والإفراط في التشبيه، وكان مجرى ما يوردونه منه مجرى القصص الحق، والمخاطبات بالصدق، فيحابون بما يثابون، أو يثابون بما يحابون"، أما الشعراء في عصره فهم "يثابون على ما يستحسن من لطيف ما يوردونه من أشعارهم، وبديع ما يغربونه من معانيهم.. ومضحك ما يوردونه من نوادرهم، وأنيق ما ينسجونه من وشي قولهم دون حقائق ما يشتمل عليه من المدح والهجاء وسائر الفنون التي يصرفون القول فيها".
ومن ثم يتبع القدماء في التمسك بالصدق فلا يبيح للشاعر أن يزيد أو ينقص شيئًا عند قص الأخبار التاريخية إلا إذا اضطره الوزن لذلك، بشرط "أن تكون الزيادة والنقصان يسيرين غير مخدجين لما يستعان فيه بهما، وتكون الألفاظ المزيدة غير خارجة من جنس ما يقتضيه بل تكون مؤيده له وزائدة في رونقه وحسنه"([67])، بل يجعل غاية الشعر غاية أخلاقية، فالشعر الجيد إذا "مازج الروح ولاءم الفهم، كان أنفذ من السحر، وأخفى دبيبًا من الرقى، وأشد إطرابًا من الغناء، فسل السخائم، وحلل العقد، وسخى الشحيح، وشجع الجبان". باختصار شديد يقتضي الشعر الجيد المبني على الفضائل والإشادة بها، على العيوب الخلقية الموجودة في الإنسان، فيجعله يتطهر من هذه العيوب، وإذا بنى الفن الإنسان على هذا النحو جعل منه إنسانًا سويًا لا يهتم بالماديات، وإنما يهتم بالمثاليات ويجعله إنسانًا قادرًا على مواجهة صعوبات ومشاكل الحياة.
ومعنى ذلك أن ابن طباطبا يرى أن التزيد في القصص على الواقع أو الكذب فيه لا يجوز للشاعر، وهذا صحيح ومقبول إذا كان في باب السير والقصص والوقائع التاريخية فلا يجوز التزيد عليها بما يحيل الحقائق، ولكن لا يفهم من كلام ابن طباطبا أن يكون الشعر محاكاة تامة للواقع فلاشك أن هناك مساحة مسموحًا بها لخيال الشاعر وهي لا تعارض الصدق حتى في مجال القصص الواقعي والحقائق التاريخية فللخيال مجال فيها بما لا يخرجها عن حقائقها. وهذا ما يسمح به ابن طباطبا ويفهم من كلامه السابق حيث يجيز أن تكون الزيادة والنقصان يسيران، وأن تكون غير خارجة عن جنس ما يقتضيه" وهذا كما ترى لا يخرج عما قررناه من أن الصدق المراد هنا هو الصدق الفني لا الصدق الواقعي، لأن الصدق الواقعي لا يقبل الزيادة والنقصان البتة.
وفي النهاية يقرر ابن طباطبا في وضوح تام ما قرره النقاد المحدثون من أن قوام الشعر عنصران اثنان هما: الفكرة، والقالب الفني، أو المعنى البديع والديباجة الحسنة بحسب تعبير الرجل، وهو لا يكاد يختلف عن التعبير الحديث في شيء. وكأنه بذلك يقرر أنه إذا كان قوام الشعر أمرين هما: الفكرة والصياغة؛ فلابد للناقد أن يحكم على كلا الأمرين ومن ثم ينقسم الشعر إلى أقسام بحسب اختلاف حسنه وجودته في كلا الأمرين.
"والشعر هو ما إن عرى عن معنى بديع لم يعر منه حُسن الديباجة، وما خالف هذا فليس بشعر".
وابن طباطبا يقرر ذلك في مواضع أخر من كتابه، مثل قوله: "فمن الأشعار أشعار محكمة أنيقة الألفاظ، حكيمة المعاني، عجيبة التأليف، إذا نقصت وجعلت نثرًا لم تبطل جودة معانيها، ولم تفقد جزالة ألفاظها، ومنها أشعار مموهة مزخرفة عذبة تروق الأسماع والأفهام إذا مرت صفحًا، فإذا حصلت وانتقدت بهرجت معانيها، وزيفت ألفاظها، ومجت حلاوتها، ولم يصلح نقضها لبناء يستأنف منه.."([68]).
فكأن ابن طباطبا يقرر أن الشعر منه: ما حسن لفظه وحسن معناه، وما حسن لفظه دون معناه، وما حسن معناه دون لفظه، أما ما خلا من الحسن في كلا الأمرين فليس بشعر.
وهو بهذا يكاد يتفق مع ناقد آخر ينتهي إلى ذلك صراحة وهو الإمام ابن قتيبة في كتابه النقدي الخالد الشعر والشعراء
أقسام الشعر:
قال أبو محمد: "تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب: ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه، كقول القائل في بعض بني أمية:
في كَفه خَيْزُران ريحُهُ عَبقّيْغضي حَيَاءً ويُغضى من مَهَابَتِهِ
مِنْ كَف أرْوَعَ في عرْنِينهِ شممُفما يُكلَّم إلا حِينَ يَبْتَسَمُ
لم يُقل في الهيبة شيء أحسنُ منه.
وكقول أوْس بن حَجَر:
أيَّتُها النفسُ أجملي جَزَعًا
إن الذي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقَعَا
لم يبتدئ أحدٌ مرثيةً بأحسنَ من هذا.
وكقول أبي ذُؤيْب:
والنفسُ راغبةٌ إذا رغبتها
وإذا تُرد إلى قليلٍ تَقْنَعُ
حدثني الرياشي عن الأصمعي، قال: هذا أبدع بيت قاله العرب.
وكقول حميد بن ثور:
أرى بصري قَدْ رَابَني بَعْدَ صَحَّة
وحَسْبُكَ داءً أن تَصِحَّ وتسْلَما
ولم يُقلَ في الكِبر شيءٌ أحسنُ منه.
وكقول النابغة([69]):
كليني لِهَمٍ يا أمَيْمَةَ نَاصَبَ
وليل أُقاسِيهِ بطيء الكواكبِ
لم يبتدئ أحدٌ من المتقدمين بأحسنَ منه ولا أغربَ.
ومثل هذا في الشعر كثير، ليس للإطالة به في هذا الموضع وجه، وستراه عند ذكرنا أخبار الشعراء.
وضرب منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، كقول القائل:
ولما قضينا من منى كُلَّ حاجةٍوشُدَّت على حُدْبِ المَهَارى رحَالُناأخذْنا بأطراف الأحاديث بيننا
وَمسحَ بالأركانِ من هو ماسحُولا ينظر الغَادِي الذي هو رائحُوسألتْ بأعناقِ المطىِّ الأباطِحُ
هذه الألفاظ كما ترى، أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطِع، وإن نظرت (إلى) ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث، وسارت المطىُّ في الأبطح.
وهذا الصنف في الشعر كثير.
ونحوه قول المعلوط:
إنَّ الذين غَدَوا بُلبِّك غَادَرواغيَّضْنَ من عَبَرَاتهنَّ وقُلْنَ لي
وشلا بعينَكَ ما يزال مَعِينَاماذا لَقِيتَ من الهوَى وَلَقِينَا
ونحوه قول جرير:
يا أخْت ناجية السلامُ عليكمُلو كنتُ أعلمُ أنَّ آخر عْهدكُمْ
قبل الرَّحيلِ وَقبل لوْم العذَّلِيوم الرحيل فعلت ما لم أفعلِ
وقوله:
بان الخليطُ ولوْ طوَّعْتُ ما باناإنَّ العُيوُن التي في طرْفها مرضٌيصرْعن ذا اللبِّ حتى لا حَرَاكَ بِهِ
وقطَّعوُا من حبالِ الوصْل أقْراناقَتَلتنا ثمَّ لم يحيين قتلانَاوهن أضعفُ خلق الله أرْكانا
وضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، كقوله لبيد بن ربيعة:
ما عاتَبَ المرءَ الكريمَ كنفسهِ
والمرءُ يصلِحُهُ الجليسُ الصالحُ
هذا وإن كان جيد المعنى والسبك فإن قليل الماء والرونق.
وكقول النابغة (للنعمان):
خطاطيفُ حُجْن في حبالٍ متينةٍ
تمدُّ بها أيد إليك نوازعُ
قال أبو محمد: رأيت علماءنا يستجيدون معناه، ولست أرى ألفاظه جيادًا ولا مبيتة لمعناه، لأنه أراد: أنت في قدرتك عليَّ كخطاطيف عقف يمد بها، وأنا كدلو تمد بتلك الخطاطيف. وعلى أني أيضًا لست أرى المعنى جيدًا.
وكقول الفرزدق:
والشيب ينهض في الشباب كأنَّه
ليلٌ يصيحُ بجانبيهِ نهارُ
وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه، كقول الأعشى في امرأة:
وفُوها كأقاجيَّكما شيبَ براحٍ با
غذاهُ دائمُ الهطْلِردِ منْ عسل النحْل
وكقوله:
إن محلا وإن مُرْتَحلااسْتأثر الله بالوفاءِ وبالوالأرض حمَّالةٌ لما حمل اللـيومًا تراها كشبْهِ أرديةِ الـ
وإن في السفْر ما مضى مهلالحمد وولى الملامةَ الرجُلاـه وما إن ترد ما فعلاـعصب ويومًا أديُمها نَغِلا
وهذا الشعر منحول، ولا أعلم فيه شيئًا يُستحسن إلا قوله:
يا خير من يركب المطيَّ ولا
يشربُ كأسًا بكفِّ من بَخِلا
يريد أن كل شاربٍ يشرب بكفه، وهذا ليس ببخيل فيشرب بكف من بخل. وهو معنى لطيف.
قال أبو محمد: وسمعت بعض أهل الأدب يذكر، أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين (عنها)، إذ كان نازلة العمد([70]) في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم عن ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب، ويصرف إله الوجوه، وليستدعي (به) إصغاء الأسماع (إليه)، لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما (قد) جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلفًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهم، حلال أو حرام. فإذا (علم أنه قد) استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع إليه، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه (قد) أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل([71])، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصَغَّر في قدره الجزيل.
فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع بالنفوس ظماء إلى المزيد.
ومن خلال النظر في تلك الأمثلة نرى أن كلاً من ابن قتيبة في القرن الثالث الهجري، وابن طباطبا في القرن الرابع الهجري كانا يمثلان اتجاهًا نقديًّا يرى أن للأدب غاية ورسالة هامة تقتضي ضرورة اشتماله على فكرة جيدة، وهذه الفكرة لا ينبغي أن تكون بالضرورة فكرة دينية، بل يمكن أن تكون فكرة إنسانية سامية، أو نموذجًا إنسانيًّا يشترك الناس في تذوقه، يرقى بمشاعرهم، ويرتقي بأخلاقهم، ويحلق بهم في قمة ساحقة من شفافية النفوس، ومن ثم يتساءل باحث معاصر فيقول: "ألم يكن من بين النقاد المنظرين للشعر آنذاك من شرط جودة الفكرة في الشعر على هذا النحو الذي كان مائلاً في أذهان اللغويين، أعني أن جودتها لا تستمد من صياغتها بل من أثرها النفعي أو فائدتها لدى المتلقي؟
لقد بدا ذلك الاتجاه واضحًا لدى ناقدين من نقادنا القدماء، ولكن مع فارق جوهري هو أنهما لم يغفلا عنصر الصياغة في تقدير الشعر، فلم تكن لجودة الفكرة في ذاتها قيمة – في نظرهما – ما لم تصحبها جودة الصياغة وفنية التعبير، وهذان الناقدان هما ابن قتيبة في القرن الثالث وابن طباطبا في القرن الرابع.
ثم يورد كلامًا لكل من الناقدين ابن قتيبة وابن طباطبا ثم يعلق عليه قائلاً:
وأود – هنا – أن ألاحظ أمرين:
* أن المعنى عند كلا الناقدين في هذا الصدد هو الفكرة المجردة التي تكون – في نظرهما – في الشعر كما في النثر، فقد شرط ابن طباطبا للتحقق من جودتها أن تجعل نثرًا، وعبر عنها ابن قتيبة بالنثر في أبيات الضرب الثاني بقوله: "ولما قضينا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينظر من غدا الرائح ابتدأنا في الحديث وسار المطى في الأبطح".
* أن كلاًّ من الناقدين كان يرى أن الفكرة الجيدة لا تكون شعرًا جيّدًا إلا في صياغة فنية (وهو إحساس كان عامًا في نقدنا العربي القديم كما سنرى عند حديثنا عن المعنى الشعري)، فعبارة حسن اللفظ عند ابن قتيبة كانت تعني الصياغة الفنية القائمة على التصوير والإيحاء، وهذا واضح في أمثلته للضربين الأولين، ويتضح ذلك أيضًا في حكمه على الضربين الأخيرين حيث كانت الصياغة تقريرية مباشرة في الضرب الثالث، ورديئة معقدة في الضرب الأخير.
ويتضح ذلك أيضًا في عبارات ابن طباطبا؛ إذ تقترن المعاني الحكيمة عنده – في النوع الأول – بكونها "أنيقة الألفاظ عجيبة التأليف"، فأناقة الألفاظ وروعة التأليف إنما يعني بهما ابن طباطبا اللغة الفنية التي تجعل تلك المعاني الحكيمة شعرا ولا يعني بها – بالطبع – مجرد الزخرف البديعي، والموسيقة الجوفاء، بل لقد كان ذلك سببًا من أسباب رفضه للنوع الثاني من الشعر ووصفه له بالتمويه والزيف.
بقى أن نسأل: إذا كانت الفكرة المجردة لا تستمد قيمتها – في نظر هذين الناقدين – من صياغتها الفنية بل من فائدتها فما طبيعة تلك الفائدة؟
نستطيع الإجابة عن هذا التساؤل عن طريق تأمل النصوص التي مثل بها ابن قتيبة لأضرب الشعر، وملاحظة ما يستجيده وما لا يستجيده من أفكارها، فأفكار بيتي الضرب الأول تدور حول الإشادة بفضائل إنسانية كالكرم والإباء والمهابة والحياء، والفكرة في الضرب الثالث عبارة عن حكمة يبثها الشاعر لينتفع بها المجتمع، (وهذان الضربان معناهما جيد في نظره) أما أبيات الضرب الثاني وبيت الضرب الرابع فكل منها يدور حول تجربة خاصة بالشاعر لا يشاركه فيها سواه (وهذان قد تأخر معناهما أولاً معنى تحتهما في نظره). فكأن المعنى الجيد عند ابن قتيبة هو ما كان قيمة أو تجربة عامة، يستطيع كل قارئ أن يفيد منها بمشاركة الشاعر في الإحساس بها، أي أن فكرة الشاعر ينبغي – في نظر ابن قتيبة – أن يكون لها امتدادها في المجتمع، فلا تكون مجرد عاطفة ذاتية أو تجربة خاصة لا تكاد تعدو قائلها.
ولا يقف في وجه هذا الاستنتاج أن ابن قتيبة قد جعل في الضرب الأول (ما حسن لفظه وجاد معناه) بيت النابغة:
كليني لهمٍّ يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
ذلك لأن النابغة إذ يتحدث في هذا البيت عن نفسه إنما يصور إحساسًا عامًا غير قاصر عليه وحده، فهو إنما يشكو تألب الهموم وطول الليل عليه، وهما أمران يحس بسطوتهما كل من سيطر عليه القلق، واستبد به الخوف من بني الإنسان.
ولا يخرج المعنى الجيد في نظر ابن طباطبا عن هذا الإطار، ويبدو ذلك عنده بصورة واضحة فيما يعرضه من نصوص تحت ما أسماه (الشعر الحسن اللفظ الواهي المعني) حيث يقول: ومن الأبيات الحسنة الألفاظ المستعذبة الرائقة سماعًا، الواهية تحصيلاً ومعنى قول جميل:
ويا حسنها إذ يغسل الدمع كحلهاعشية قالت في العتاب قتلتني
وإذ هي تذري الدمع منها الأناملوقتلي بما قالت هناك تحاول
وكقول جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادرواغيضن من عبراتهن وقلن لي
وشلا بعينك لا يزال معينًاماذا لقيت من الهوى ولقينا
وكقول الأعشى:
قالت هريرة لما جئت زائرها
ويلي عليك وويلي منك يا رجل
فهذه الأمثلة (وأمثلة أخرى في هذا الموطن) تدور كلها حول غرض واحد هو الغزل، وكل منها تعبير عن تجربة خاصة أو موقف خاص للشاعر مع المرأة، ولا يعني ذلك أن ابن طباطبا يرفض معاني الغزل على إطلاقها، بل إن له نظرة خاصة في هذا الغرض مؤداها أن الشعر لا يحسن فيه إلا إذا عبر الشاعر عن تجربة عامة أو إحساس عام يشترك فيه معه سائر الناس، وذلك ما يبرر قوله قبل ذلك مباشرة: "ومما يستحسن جدًّا قول علي بن محمود بن نصر:
لا أظلم الليل ولا أدعىليلى كما شاءت فإن لم تزر
أن نجوم الليل ليست تغورطال وإن زارت فليلي قصير
فهذان البيتان غزل أيضًا، ولكنهما يصفان إحساسًا عامًّا يحس به كل عاشق، بل إن الإنسان بصفة عامة يحس بما أحس به ذلك الشاعر من قصر أوقات السعادة وطول أوقات الهموم، وتلك النظرة عند ابن طباطبا هي التي صرح بها معاصره قدامة بن جعفر حيث يقول في باب النسيب: "إن المحسن من الشعراء فيه هو الذي يصف من أحوال ما يجده ما يعلم به كل ذي وجد حاضر أو دائر أنه يجد أو قد وجد مثله حتى يكون للشاعر فضيلة الشعر"([72]).
وجدير بالذكر أن أمثلة ابن طباطبا في هذا الصدد تتفق (من حيث طبيعة المعنى فيها) مع أمثلة ابن قتيبة للضرب الثاني من أضرب الشعر، الأمر الذي يدل على اتفاق الناقدين في فهم طبيعة الشعر وتصور وظيفته، وقد كان ابن طباطبا على وعي – فيما يبدو – بأنه ينظر من نفس النافذة التي أطل منها ابن قتيبة على الشعر، فنقل عنه في هذا الصدد أحد أمثلته لهذا الضرب([73])، واستحسن – فيما يشبه التعقيب – أبيات الحجيج (التي جردها ابن قتيبة من كل معنى) استحسانًا لا يرتفع بها كثيرًا عن رأي ابن قتيبة فيها([74]).
نستطيع بناء على ما تقدم أن نقرر أن معيار جودة المعنى في نظر هذين الناقدين هو أن يكون له امتداده الشعوري عند الآخرين، فالشعر الجيد هو الذي يحوي من المعاني والأفكار ما كان ذا صبغة إنسانية عامة تكفل له النفاذ إلى نفوس المتلقين فيشاركون الشاعر في الإحساس به، ويفيدون عن طريق تلك المشاركة منه، وفي إطار المعيار السابق لا تقتصر جودة المعنى على المعاني الخلقية أو الحكمية كما تردد كثيرًا في تفسير مصطلح المعنى لدى ابن قتيبة، بل إن دائرة المعاني الجيدة لتتسع في نظر ذلك الناقد عن تلك الدائرة الضيقة لتشمل كثيرًا من المعاني التي ينطبق عليها المعيار السابق، ولعل بيت النابغة – سالف الذكر – الذي وضعه ابن قتيبة في الضرب الأول من أضرب الشعر عنده يؤكد ذلك؛ إذ إنه ليس حكمة أو خلقًا كما سبق أن ذكرنا.
وهذا الاتجاه الذي يركز على أن يكون للشاعر رسالة سامية بحيث يقدم فكرة جيدة تشتمل على (نموذج إنساني) – له شيوع وذيوع في كتب النقد العربي قديمها وحديثها.
وقد أورد المرزوقي في حديثه عن عمود الشعر مصطلح الإصابة في الوصف، وجعل عياره ما أوتيه الأديب من ذكاء وفطنة "فبهما يدرك ما هو أشد لصوقًا بالشيء فيكون من صفاته الأساسية، وما لا يكون ذا لصوق وامتزاج به لا يكون من الصفات الأساسية"([75]).
فالإصابة تتحقق – في نظر المرزوقي – بالاعتماد في تصوير الشيء على ما هو جوهري أو حقيقي من صفاته لا ما هو عرضي أو زائل من تلك الصفات، والشاعر إنما يهتدي لذلك بحسه المرهف، وطبعه المواتي، وذكائه الخلاق، ومقتضى تلك النظرة أن الفن ليس رصدًا للواقع، أو نقلاً أميناً له، فالفن إنما هو اختيار، والشاعر العبقري يختار في رسم نماذجه عناصر تخلد لا أعراضًا تزول، ومعنى ذلك أن "الإصابة"، في نظر المرزوقي هي طموح إلى رسم مثل عليا تتجاوز حرفية الواقع لتسمو به، وتقوده إلى طريق الكمال.
وقد تردد مصطلح الإصابة غير مرة على لسان قدامة بن جعفر في أثناء حديثه عن أغراض الشعر، حيث أخذ يحدد في كل غرض مجموعة المعاني أو الصفات اللائقة به، والتي تتحقق بها – في نظره – تلك الإصابة، فمدح الرجال يكون بالعقل والشجاعة والعدل والعفة، ومن ثم كان "القاصد لمدح الرجال بهذه الأربع الخصال مصيبًا، والمادح بغيرها مخطئًا، وتتحقق إصابة الغرض في الهجاء بأن يعمد الشاعر إلى أضداد الصفات السابقة "فكلما كثرت أضداد المديح في الشعر كان أهجى له"، والنسيب المصاب به الغرض "هو ما كثرت فيه الأدلة على التهالك في الصبابة، وتظاهرت فيه الشواهد على إفراط الوجد واللوعة"([76]).
ونظرة إلى تلك الصفات التي يحددها قدامة لتحقيق الإصابة في أغراض الشعر، تكشف لنا أنها صفات نفسية أو فضائل خلقية، ومغزى ذلك أن "النموذج" في الشعر ينبغي أن يكون في نظره "نموذجًا إنسانيًا" غايته تهذيب الإنسان وتربيته، والسمو به في درجات الإنسانية، ومن ثم فإنه لا يقوم إلا على ما هو جوهري في ذلك الإنسان من فضائل وصفات، ومن هنا كان إعجاب قدامة بمقالة عمر بن الخطاب في زهير: "إنه لم يكن يمدح الرجل إلا بما يكون في الرجال"([77]).
وبناء على ذلك فقد استبعد قدامة من الإصابة في المدح كل ما كان قائمًا على أوصاف الجسم من جمال أو زينة مثلاً، أو على ما يمتلكه الإنسان من مال، أو ما يختص به من جاه، أو ما يحوزه من سلاح وعتاد أو ما إلى ذلك؛ إذ إن هذه كلها أمور عرضية فيه لا صفات جوهرية تصلح لبناء ذلك "النموذج الإنساني"، وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى استشهاد قدامة بموقف عبدالملك بن مروان من قول كثير من مدحه:
على ابن أبي العاص دلاص حصينةيئود ضعيف القوم حمل قتيرها
أجاد المسدى نسجها وأذالهاويستظلع القرم الأشم احتمالها
فقال له عبدالملك: قول الأعشى لقيس بن معدي كرب أحسن من قولك حيث يقول له:
وإذا تجيء كتيبة ملمومةكنت المقدم غير لابس جنة
شبهاء يخشى الزاهدون نهالهابالسيف تضرب معلما أبطالها([78])
وقدامة يوافق عبدالملك على أن تصوير الأعشى للشجاعة أجود من تصوير كثير، فكثير قد اعتمد في تصويره للشجاعة على الصفات العرضية لها من كثرة السلاح والعتاد، أما الأعشى فقد بالغ في تصويرها وجعلها شجاعة حقة لا تحتمي بالأسلحة أو تتوارى خلف الحصون، والمبالغة على حد تعبير قدامة "أحسن من الاقتصار على الأمر الوسط"، وبعبارة أخرى: استطاع الأعشى أن يجعل من ممدوحه "نموذجًا" أو "مثالاً" في الشجاعة على حين أخفق كثير في ذلك.
وهذا الذي أوردناه آنفًا يؤكد على أننا حينما نقرر أن للأدب في تراثنا النقدي غاية ورسالة سامية لا نعني أن نقادنا القدامى كانوا يريدون للأدب أن يكون كله مواعظ أو حكمًا أو شعرًا دينيًا أو نحو ذلك، وإنما نعني أن يكون لهذا الأدب رسالة إنسانية تقدم النموذج الإنساني في اعتداله، وفي صورته التي ينبغي أن تحتذى، أو قل في صورته التي لا يستحيا منها، لأنها تمثل النموذج البشري في بشريته، تصوره بقيمه ومثله ونوازعه وغرائزه الفطرية التي هي من قوام بشريته وإنسانيته، لا في صورته الشريرة التي تقربه من النموذج الشيطاني الخبيث، ويبقى بعد ذلك النموذج الملائكي حلمًا يتغنى به الشعراء كما تغنى أفلاطون بمدينته الفاضلة.
الشبه التي احتج بها أصحاب المذهب الشكلي على تجريد الأدب من رسالته السامية:
بقي أن نعرض هنا للشبه التي استدل بها من استدل على تجريد الأدب من غايته ورسالته، وهم أصحاب المذهب الشكلي الذين يتابعون الاتجاه الشكلي الأمريكي في النقد الذي يرى أن الفن للفن، وأنه لا غاية للأدب سوى المتعة الجمالية والفنية البحتة وأن النقد لا ينبغي أن يقيد الشاعر أو الأديب بأي قيود دينية أو أيديولوجية معينة، بل و لا حتى القيم الإنسانية المتفق عليها، فلا شيء يحد الأديب في إبداعه وتصويره النوازع البشرية الشريرة مهما بلغت من التدني في الاقتراب من النموذج الشيطاني القبيح.
وكما قلنا إن هؤلاء الذين جردوا الأدب من قيمته لم يعدموا بعض المقولات النادرة في تراثنا النقدي الزاخر تشتمل على كلام ورد في سياق بعينه يريد به أصحابه ما أراده هؤلاء من تجريد الأدب من غايته ورسالته، ولكن حملهم على ذلك إما التعصب لشاعر بعينه، أو الميل لمذهب نقدي بعينه تقتضي نصرته والدفاع عنه إطلاق مثل هذه المقولات.
أولاً: ما احتجوا به من كلام قدامة بن جعفر
قال قدامة بن جعفر في كتابه (نقد الشعر): "ومما يجب تقدمته وتوطيده قبل ما أريد أن أتكلم فيه أن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم منها في ما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة من أنه لابد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصورة منها، مثل الخشب للنجارة، والفضة للصياغة وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى – كان – من الرفعة والضعة، والرفث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح([79]) وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة، أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة.
ومما يجب تقديمه أيضًا أن مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين، بأن يصف شيئًا وصفًا حسنًا ثم يذمه بعد ذلك ذمًّا حسنًا، بينًا غير منكر عليه، ولا معيب من فعله إذا أحسن المدح والذم، بل ذلك عندي يدل على قوة الشاعر في صناعته، واقتداره عليها.
وإنما قدمت هذين المعنيين([80]) لما وجدت قومًا يعيبون الشعر إذا سلك الشاعر هذين المسلكين([81]). فإني رأيت من يعيب امرأ القيس في قوله:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعإذا ما بكى من خلفها انصرفت له
فألهيتها عن ذي تمائم محولبشق وتحتي شقها لم يحول
ويذكر أن هذا معنى فاحش، وليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودة النجارة في الخشب مثلاً رداءته في ذاته([82]).
والجواب على هذا من وجوه:
الأول: أن قدامة بن جعفر كان مذهبه في نقد الشعر هو مذهب الغلو في المعاني، أي أنه يرى أن على الشاعر أن يبالغ في المعنى حتى يصل إلى النموذج فيه، فإذا كان يصور نموذجًا للخير كان عليه أن يبالغ في تصوير ذلك النموذج للغاية، وكذلك إذا كان يصور نموذجًا للشر، فإن عليه أن يبالغ في تصوير ذلك النموذج للغاية وليس معنى ذلك أن ينتصر الشاعر للنموذج الشرير، فتصويره لنموذج الشر شيء، والانتصار له شيء آخر.
وبناء على ذلك يرى قدامة أنه لا غضاضة على الشاعر من ظهور العبارات الفاحشة أو غيرها، فهو إنما يصور نماذج الرفعة والضعة، والرفث (أي الفحش) والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح والهجاء، وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة. حتى إن ذلك ليبيح له أن يناقض نفسه في قصيدتين مثلاً لأنه لا يتحدث عن نفسه إنما هو يصور في الحقيقة نموذجين مختلفين وإن أوردهما كليهما على لسانه.
ومن ثم فلا عيب على امرئ القيس في نظر قدامة بن جعفر لأنه في هذا الموضع كان بصدد تصوير نموذج الفحش والمجون والخلاعة والتهتك.
ومن هنا نفهم أن مراد قدامة أن الشاعر له أن يعرض للمعاني المختلفة على سبيل تصوير النماذج لا على سبيل الانتصار لها.
لكننا مع ذلك نقول: إنه لا يسوغ للشاعر أن يغالي في النظرة الواقعية في عرض النموذج الشرير حتى يصل به المنهج الواقعي في العرض إلى تهييج الغرائز وإثارة الشهوات، فهذه هي الواقعية الإباحية المرفوضة.
ولو أن قدامة اعتذر عن امرئ القيس بأنه كان شاعرًا جاهليًا وليس له من قيود الدين والشرع ما يمنعه من سلوك مسالك العفة لكان ذلك مقبولاً، فإننا لا نلزم الآخرين بقيم لا يلتزمونها.
غير أننا مع ذلك نقول إن التزام العفة والطهر فطرة وغريزة في النفوس يعرفها الناس جميعًا ذوو الديانة وذوو الميانة، فهي من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي من القيم الإنسانية المشتركة بين بني البشر، والتي يحق للناقد أن يأخذها على الشاعر إذا كان ملتزمًا بأن يكون للأدب رسالة وغاية، فمن ثم فإن رد قدامة على هؤلاء الذين أخذوا ذلك على امرئ القيس غير مقبول، وإنما دفعه إلى ذلك تعصبه لإثبات مذهب الغلو في المعاني على إطلاقه وكثيرًا ما جر التعصب أصحابه إلى الخطأ والضلال.
فالغلو والمبالغة في المعنى حتى يصير نموذجًا في الخير أو الشر مقبول من الناحية الفنية بشرط ألا تفحش الصورة الشريرة المعروضة بحيث تكشف لنا عما تشمئز منه النفوس، وتنفر منه الطباع، ولو فتح هذا الباب لساغ لأصحاب هذا الاتجاه أن يعرضوا الإنسان في حالاته الكريهة التي يستتر فيها من الناس اشتمئزازًا وخجلاً، والتي أمر الله تعالى فيها بالتستر والصون والعفة؛ وهذا ما وصل إليه أصحاب هذا الاتجاه في الغرب اليوم حيث صوروا الإنسان في أقبح حالاته، وأشدها حيوانية وبهيمية في مختلف صور الفنون من شعر ونثر وغناء ونحت وتصوير وغير ذلك.
الوجه الثاني: في الرد على ما استدلوا به من كلام قدامة، وهذا الوجه يقتضي أن نحيل على ما سبق أن أصلناه من قبل من أن قوام الأدب عنصران هما: الفكرة والصياغة.
فنقول: إن غاية كلام قدامة هو أن الناقد ينبغي عليه ألا يبخس الشاعر حقه، فإن الشعر فكرة وصياغة، فإذا أخطأ الشاعر الفكرة، وأجاد في الصياغة فإن هذا فضل له لا ينكر، فلا ينبغي أن يغمط حقه، ولا أن ينتقص فضله لأجل ما خالفنا فيه من الفكرة والمعنى، وهذا ما يقرره الدين حيث يقول: }وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى{([83])، فمخالفة الناقد للشاعر في الفكر والمعنى لا تحمله على انتقاصه فيما أجاد فيه من الصياغة والتصوير.
وهذا الكلام أقرب أن يحمل عليه كلام قدامة، وهو كلام مستقيم يشتمل على غاية الإنصاف، ويتفق مع ما سبق تقريره عند كل من ابن قتيبة وابن طباطبا من قبل من تقسيم الشعر إلى أقسام متعددة من حيث جودة لفظه ومعناه.
وبهذا التصور أيضًا نسطيع أن نفهم كلام القاضي الجرجاني حينما حمله التعصب للمتنبي على إطلاق مقولته التي شاعت وذاعت وأصبحت سلاحًا يشهره أصحاب المنهج الشكلي في وجه كل من ينادي بأن يكون للأدب رسالة وقيمة، وهذه المقولة هي قوله: "والدين بمعزل عن الشعر". وكان سبب هذه المقولة هي ما شاع من اتهام المتبني بضعف العقيدة وفساد المذهب في الديانة في شعره كقوله:
يترشفن من فمي رشفات
هن فيه أحلى من التوحيد
فرأيناه يدافع عن المتنبي فيقول – وهو ممن تولوا القضاء وحكموا بين الناس، وكان فقيهًا مفسرّا – "فلو كانت الديانة عارًا على الشعر وكان سوء الاعتقاد سببًا لتأخر الشاعر، لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد عليهم الأئمة بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزبعري وأضرابهما ممن تناول رسول الله r وعاب من أصحاب بكمًا خرسًا وبكاء مفحمين ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر"([84]).
فنحن وإن كنا لا نوافق الجرجاني على إطلاقه هذه العبارة، ونعد ذلك منه سهوًا وسبق قلم حمله عليه التعصب للمتنبي – فإننا نحمل كلامه على أن فساد دين الشاعر أو الأديب لا يمنع الناقد من الحكم له بالجودة أو التقدم في جانب الصياغة إذا أجاد فيها مع بيان فساد دينه وعقيدته، ويكون هذا من الإنصات الذي علمه الإسلام لأصحابه.
والذي يدل على أن هذا سهو وسبق قلم وتعصب من الجرجاني أنه ورد عنه ما يدافع به عن الدين والعقيدة فهو يستثقل أبياتًا لأبي نواس فيصفها بسخف اللفظ وسوء النظم، وسقط المعنى لما فيه من خروج على معالم الدين وأركانه الثابتة.
وهذا يدلنا على أن نقادنا العرب جميعًا كانوا يلتزمون برسالة الأدب وغايته السامية، وينادون بها، ويورد باحث معاصر ما سبق من كلام قدامة والجرجاني ثم يقول: "والمتأمل في نقدنا العربي يدرك أن الفصل بين القيم الخلقية والنقد يأتي دائمًا – أو في الأعم الأغلب – في مقام دفاع النقاد عن الشعراء الذين ينتصرون لهم أو عن مذهب ينتصرون له فقدامة كان يدافع عن امرئ القيس من خلال دعوته إلى مذهب الغلو في الشعر والجرجاني كان يدافع عن المتنبي ففصل الدين عن الشعر، والصولي كان يدافع عن أبي تمام فقال: "وما ظننت أن كفرًا ينقص من شعر ولا أن إيمانًا يزيد فيه"([85]).
أما إذا كان الحديث عن الشعر في ذاته رأينا نقادنا العرب يعيبون الشعر إذا خرج على الآداب والقيم الخلقية، فهذا هو الجرجاني يعيب شعرًا لأبي نواس وبخاصة قوله:([86])
أنا مالي وللربالست ممن يطوف في
ط وللغزو والفداعرفات ولا منى([87])
فيقول: "وهو كما تراه في سخف اللفظ، وسوء النظم، وسقط المعنى". فسقط المعنى يتمثل في سخرية أبي نواس من بعض شعائر الإسلام كالجهاد والتضحية في سبيل الله، والوقوف بعرفات، ورمي الجمرات، ومن ثم كان الخروج على القيم الدينية أو السخرية بشعائر الإسلام أحد الأسباب الثلاثة التي من أجلها عاب الجرجاني أبيات أبي نواس.
وها هو ذا الأصمعي لا يروي أي شعر فيه هجاء، أو فيه ذكر الأنواء، عملاً بقول رسول اللهr إذا ذكرت الأنواء فأمسكوا، ولا يفسر أي شعر يتشابه مع آيات القرآن([88]). على الرغم من أنه هو القائل: "وطريق الشعر هو طريق الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من صفات الديار والترحل، والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء، وصفة الخمر والخيل والافتخار، فإذا أدخلته في باب الخير لان"([89]).
وبهذا نكون قد أزلنا هذا الغبش الذي شوش كثيرًا على رسالة الأدب في تراثنا النقدي، ليتضح لنا أن هذا التراث النقدي الذي نعتز به في عمومه قد حافظ على هذه الرسالة السامية للأدب ودعا إلى التزام الشاعر بالقيم السامية، وأن يكون الأدب وسيلة لا للمتعة الجمالية وحدها ولكن أيضًا وسيلة راقية لتهذيب المشاعر، وشفافية النفوس.
([1]) المردان: جمع أمْرد وهو الشخص الذي لا ينبت له شعر في لحيته.
([2]) الدعوة الجفلى: الدعوة العامة، لا ينتقر أي: لا يختار أناسًا دون آخرين.
([3]) المحكم لابن سيدة بتحقيقي (5/385 "أدب") والإزب من الرجال: هو القصير الغليظ (المحكم 9/82) (أزب).
([4]) انظر: د. شوقي ضيف – العصر الجاهلي ص(7-10).
([5]) مقدمة ابن خلدون ص(553).
([6]) أ.د/ غنيمي هلال – الأدب المقارن ص(5).
([7]) انظر في تفصيل تلك النقطة كتابنا: "رسالة الأدب المقارن" توزيع مكتبة دار العلوم.
([8]) البيت للفرزدق في تاج العروس "درهم"، ولسان العرب "صرف" ولم أقع عليه في ديوانه، وذكره ابن سيده في المحكم (نقد) (6/316) بتحقيقي وقال رواية سيبوية: "نفى الدراهيم".
([9]) انظر مادة: (نقد) في كل من لسان العرب لابن منظور – ط دار المعارف (4517)، المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده – تحقيق د/ عبدالحميد هنداوي – ط دار الكتب العلمية – بيروت (6/316).
([10]) دلائل الإعجاز (195)، والبحتري هو الشاعر المعروف المتوفى سنة (284هـ).
([11]) نقد الشعر (72) وتجدر الإشارة إلى أن الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي قد ذكر في مقدمة تحقيقه لهذا الكتاب أن قدامة قد أغفل في هذا النص جهود العلماء السابقين عليه في تأصيل قواعد النقد الأدبي كالأصبعي وابن سلام والجاحظ وغيرهم. والواقع أنه ليس في هذا النص ما يبرر هذه التهمة، ذلك أن قدامة لا يدعي أن أحدًا من السابقين عليه لم ينظر في نقد الشعر وإنما يدعي أن أحدًا منهم لم يسبقه إلى تخصيص مؤلف مستقل لهذا الغرض وهذا أمر نوافقه عليه في ضوء ما هو معلوم من أن المؤلفات النقدية في القرن الثالث كانت أقرب إلى الموسوعات التي اختلطت فيها النظرات النقدية بالرواية وتاريخ الأدب. د/ حسن طبل – مدخل إلى النقد الأدبي ص(10).
([12])الموازنة (20-21).
([13]) انظر على سبيل المثال د/ عزالدين إسماعيل – قضايا الإنسان في الأدب المسرحي المعاصر ص(16)، د/ عبدالواحد علام – قضايا ومواقف في التراث النقدي ص(19-22).
([14]) الدكتور عبدالواحد علام: السابق ص(21-22)، وما به من مراجع.
([15]) الدكتور محمود الربيعي: قراءة الرواية – ط دار المعارف الثانية ص(9-10).
([16]) البيان والتبيين – عبدالسلام هارون- الخانجي 1985 – (1/144).
([17]) طبقات فحول الشعراء: (جـ1/140).
([18]) المثل السائر: (ص112).
([19]) الوساطة بين المتنبي وخصومه: (ص17-18).
([20]) رواه البخاري.
([21]) متفق عليه.
([22]) رواه مسلم.
([23]) متفق عليه.
([24]) متفق عليه.
([25]) رواه مسلم.
([26]) رواه مسلم.
([27]) متفق عليه.
([28]) متفق عليه.
([29]) رواه في شرح السنة.
([30]) رواه البخاري.
([31]) متفق عليه.
([32]) رواه الدارقطني.
([33]) الشعراء: 224-227.
([34]) ق: 16-18.
([35]) يريه: قال الأصمعي يريه من ورى يري: أي يمرقه، أو يصيبه بالرئة.
([36]) متفق عليه.
([37]) رواه الترمذي.
([38]) رواه البيهقي في "شعب الإيمان".
([39]) رواه أحمد.
([40]) رواه الترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
([41]) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
([42]) رواه أبو داود.
([43]) رواه أبو دواد.
([44]) رواه الدارقطني.
([45]) رواه مسلم.
([46]) الشعراء: 225، 226.
([47]) الشعراء: 227.
([48]) الشعراء: 227.
([49]) سورة الأحزاب: 70، 71.
([50]) سورة ق: 18.
([51]) حديث حسن.
([52]) الشعراء: 227.
([53]) الشعراء: 226.
([54]) رواه أبو داود.
([55]) ص: 86.
([56]) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح: تحقيق د. عبدالحميد هنداوي ج10/3106 قال الطيبي: "ولا يدخل في الذم تحسين ألفاظ الخطب والمواعظ، إذا لم يكن فيها إفراط وإغراب؛ لأن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله تعالى، ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر".
([57]) مجه: كرهه.
([58]) تقذي: القذي: ما يصيب العين من غبار أو غيره.
([59]) تتشوف: تتزين.
([60]) الموالج: المداخل.
([61]) الكدر: ما يشوبه من أشياء تعيبه.
([62]) الأراييح: (ج) رائحة.
([63]) الصديان: الظمئ.
([64]) السخائم: الأحقاد.
([65]) الصديان: الظمئ.
([66]) السخائم: الأحقاد.
([67]) عيار الشعر: (73).
([68]) عيار الشعر: (7). وانظر: (83، 84، 87، 89).
([69]) النابغة: هو الذبياني.
([70]) نازلة العمد: هم أصحاب الأبنية الرفيعة الذين ينتقلون بأبنيتهم، ونحو ذلك فسر القراء قوله تعالى }إرم ذات العماد{ أنهم كانوا أهل عمد ينتقلون إلى الكلأ حيث كان ثم يرجعون إلى منازلهم.
([71]) الذمامة: بفتح الذال وكسرها: الخف والحرمة.
([72]) نقد الشعر: (75).
([73]) بيتي جرير السابقين.
([74]) انظر: عيار الشعر: (84).
([75]) شرح ديوان الحماسة: (ج1/16).
([76]) نقد الشعر: (39، 55، 73). وانظر: (ص60، 61، 73، 74).
([77]) انظر السابق: (38).
([78]) انظر السابق: (41).
([79]) الأصح: والمدح والهجاء.
([80]) وهما: أن المعاني كلها معرضة للشاعر، وأن مناقضة الشاعر نفسه أمر غير منكر.
([81]) بأن جعل المعاني فيه كلها معرضة للشاعر أو ناقض الشاعر نفسه في كلمتين أو قصيدتين.
([82]) أبي الفرج قدامة بن جعفر: نقد الشعر(65، 66).
([83]) المائدة: 8.
([84]) الوساطة: 64.
([85]) الوساطة: 64.
([86]) أخبار أبي تمام: تحقيق خليل عساكر وآخرين – لجنة التأليف والترجمة 1937.
([87]) الوساطة: 59.
([88]) المبرد – الكامل – محمد أبو الفضل إبراهيم 1956 – (3، 36).
([89]) المرزباني – الموشح – على محمد البجاوي – دار نهضة مصر (83).