الجمعة، 8 مايو 2009

نماذج من كتاب بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم للدكتور هنداوي وهي بعض حلقات هذا البرنامج الذي يذاع في إذاعة القرآن الكريم للدكتور على مدى 6 سنوات سابقة ولا يزال إلى الآن ، كما تعرض حلقات بلاغة القرآن لفضيلته أسبوعيا السبت س4 على قناة صفا

بلاغة الرسول r








تأليف
د/عبدالحميد هنداوي
المدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ{ [آل عمران: 102]
}يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا{
[النساء:1]
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا{
[الأحزاب:70-71 ]
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدى محمدr وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.


الحلقة الأولى

عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله r يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" ([1]).
المعنى العام للحديث:
ينبه النبي r في هذا الحديث على أمر كبير، عظيم الخطر، ألا وهو أمر الإخلاص واستحضارِ النية الصالحة عند كل أمر من الأمور المشروعة.
ولعظم هذا الأمر وخطورته، قال الإمام الشافعي –رحمه الله- إن هذا الحديث هو ثلث الإسلام.
ويمكننا أن نقول إن هذا الحديث نصف الدين، وذلك لأن قبول الأعمال التي يتدين العبد بها لربه يتوقف على شرطين مهمين:
الأول: الإخلاص وإصلاح النية في جميع الأعمال (وهو ما يختص به هذا الحديث).
الثاني: متابعة النبي r والاقتداء به في جميع الأمور.
وهو ما يدل عليه حديث "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
ويبين النبي r في هذا الحديث أن الأعمال لا تصلح ولا تحتسب للعبد إلا بالنية، وأنه لا يؤجر عليها ولا يوزر إلا بحسب نيته، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
كما يبين النبي r أن الأعمال قد تتشابه في صورها، ولكن تفرق النية بينها، فقد يكون هناك رجلان مهاجران إلى مكان واحد وفي رحلة واحدة وعمل وسعي واحد، ويكون نية أحدهما غيرَ نية الآخر، ويؤجر كل واحد منهما على قدر نيته لا على قدر سعيه وعمله.
بلاغة الرسول r في هذا الحديث:
يبدأ النبي r الحديث بهذه الأداة (إنما) التي تفيد التوكيد والقصر، كما أن في قول النبي r (إنما الأعمال بالنيات) إيجاز بالحذف إذ إن تقدير الكلام (إنما تصح الأعمال بالنيات) أو (إنما تحتسب بالنيات) أو نحو ذلك، وقدر بعضهم (إنما تكون الأعمال بالنيات) أو تحصل بها وهذه الجملة تشتمل على بلاغة عظيمة من النبي r من جهة حصر اعتبار الأعمال على نياتها المتعلقة بها، فالأعمال لا تعتبر بالكثرة أو القلة، ولا تعتبر بالعظم أو الصغر، وإنما تعتبر بأمر واحد هو النية، فإن كانت صالحة صلَح العمل وإن كانت فاسدة فسد العمل، وكذلك إن كانت النية غيرَ مطابقة للعمل كمن غسل أعضاء الوضوء للنظافة لا للتعبد، ثم عد ذلك وضوءًا.
فإنه لا يصح وضوؤه، وكذلك إن جاء العمل بغير نية أصلا فإنه يعد لغوا، كمن قال لصديقه: والله لتأكلن، وهو لا ينوي قسما ولا يريده؛ فإن ذلك يعد لغوًا ولا تلزمه الكفارة إن لم يفعل المحلوف عليه.
وتعريف النبي r (للأعمال) في قوله (إنما الأعمال) هو التعريف الجنسي الاستغراقي فيفيد شمول الأعمال كلها، فالأعمال كلها لا تعتبر إلا بالنية، فيشمل ذلك جميع الأعمال التكليفية حتى المباح منها فإن نوى بالأكل أن يتقوى على طاعة الله تعالى أجر على ذلك، وإن نوى به التقوي على معصية ناله من الوزر والإثم بحسب نيته، وفي ذلك يقول النبي r: "وإن الرجل ليضع اللقمة في فم امرأته يبتغي بذلك وجه الله يكون له بذلك أجر" أي إنه إن فعل ذلك ابتغاء تحقيق المودة والرحمة التي أمر الله تعالى بها بين الزوجين كان له بذلك أجر من الله تعالى.
والباء في قول النبي r (بالنيات) إما أن تكون للواسطة كما تقول: كتبت (بالقلم)، فالواسطة والآلة التي يعتبر بها العمل هي النية.
وإما أن تكون للسببية، وهذا يحسن على الأخص في قول من قدر (إنما تحصل الأعمال بالنيات) حيث قدر المعنى أن الأعمال لا تحصل إلا بالنيات، وقد يظن أنه راجع إلى المعنى الأول أي لا تحصل حصولا شرعيًّا معتبرًا، ولكن قائل هذا القول قد التفت إلى أمر زائد وهو أن النية تكون سببًا لتيسير الله تعالى حصول العمل الصالح وإيجاده، كما قال تعالى: }فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى { [الليل:5-10]
هذا وبالله التوفيق



الحلقة الثانية

عن ابن عباس –رضي الله عنه- قال: قال النبي r: "أُريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن". قيل: يكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان. لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط"([2]).
المعنى العام للحديث:
في هذا الحديث يوجه النبي r موعظته إلى النساء بتخويفهن من النار وبيانِ كثرة من يدخلها من النساء رجاء أن تنزعج قلوبهن لذلك فيحذرن ويفزن بالنجاة منها قال تعالى: }فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ {.
ويركز النبي r في موعظته على أهم سبب يدخل النساء النار، وهو عدم رعاية حق العشير وهو الزوج، وجحودُ فضلِه ومعروفِه وإحسانِه إلى الزوجة.
وفي الحديث تحذير للنساء من عاقبة ما جبلت عليه من الغضب الشديد، وتقلبِ النفس والمزاج ونسيانِ معروف الزوج وإحسانِه، فيبين النبي r عاقبة ذلك، وما يؤول إليه التمادي فيه من الوقوع في كبيرة الكفر بحق الزوج وإحسانه والتقصير في حقه وجحود خيره.
والحديث بذلك يؤكد على رعاية المرأةِ حقَّ زوجها ومعرفة قدره، وشكرِ معروفه وإحسانه وإن قلّ، وهذا من أهم أسباب استقرار البيوت، وسعادة الأسرة.
بلاغة الرسول r في الحديث:
-في قول النبي r : "أريت النار" بالبناء للمجهول فيه إيجاز بحذف الفاعل، وذلك لشيوع العلم به، فمعلوم أن فاعل ذلك هو الله تعالى.
-وفي الإتيان "بإذا" في قول النبي r "فإذا أكثر أهلها النساء" دليل على التعجب والدهشة، فإن "إذا" هذه هي التي يسميها النحاة بإذا الفجائية، مثل قولك: "خرجت فإذا الأسد".
وفي قوله r: "أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء. يكفرن".
بين الجملتين نوع من الفصل وهو فن من البلاغة بمكان عظيم، وسبب الفصل أنه جعل الجملة الثانية بمثابة جواب لسؤال محذوف، كأنه قيل: وما سبب كونهن أكثرَ أهل النار؟ فقال: يكفرن.
-وفي قول النبي r : "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان".
هو من باب التفصيل بعد الإجمال، حيث فصَّل النبي r ما أجمله قبل من ذكر كفرهن، ففصَّله وبين نوعه وحقيقته، بأنه ليس راجعًا إلى الكفر بالله، ولكنه راجع إلى كفرِ العشير وهو الزوج، وكفرِ إحسانه ومعروفهِ إليها، والكفرُ معناه الستر والتغطية والجحود، فكأن المقصود أن الزوجة تجحد ما يجب عليها من إحسان عشرة العشير وهو الزوج ورعايةِ حقه، وتجحد إحسانه ومعروفه إليها بنسيانه وعدمِ الاعتراف والإقرارِ به وإنكارهِ بقولها: "ما رأيت منك خيرًا قط".
-وفي قول النبي r : "يكفرن" أتى بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ذلك منهن وكثرتِه.
-وفي تكرار النبي r للفعل "يكفرن" دلالة على كثرة وقوع الجحود منهن وتنوعِه ما بين جحود حقه، وجحود إحسانه.
-وفي قول النبي r : "ثم رأت منك شيئا" نكر لفظَ "شيئا" للتقليل والتحقير، أي لو رأت منك هنةً يسيرةً أو أدنى شيء لجحدت معروفك.
-وكذلك في قول النبي r حكاية لكلام المرأة: "ما رأيت منك خيرًا قط" نكر كلمة "خيرًا" كذلك للدلالة على مبالغتِها في الجحود والإنكار فهي لا تذكر له أدنى خير ولا أقلَّه، ولا ترى أنه قد صنع إليها معروفًا قط قبلُ، ولو كان حقيرًا يسيرًا فالتنكير هنا للتحقير والتقليل كذلك.
هذا وبالله التوفيق



الحلقة الثالثة

عن النواس بن سمعان عن رسول الله r قال: "ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا. وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك! لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم"([3]).
المعنى العام للحديث:
هذا الحديث يبين لنا النبي r كيف تكون الاستقامة على منهج الله تعالى صراطِه المستقيم،كما يحذر المسلمَ من الاعوجاج عن هذا المنهج وهذا الصراط، فلا يميل إلى شيء من الشبهات الزائغة أو الشهوات الجامحة الباطلة، يستقيم على منهج الله تعالى كما هو وصف المؤمنين المفلحين بأنهم "قالوا ربنا الله ثم استقاموا"، وجاء رجل إلى النبيr يسأله نصيحة لا يسأل عنها أحدا بعده، فقال له رسول الله r: "قل: آمنت بالله، ثم استقم".
فالمؤمن الحق، هو الذي يستقيم على منهج الله تعالى ولا يفتح أبواب الشر، ولا يقع في الشبهات كي لا يقع في محارم الله تعالى، فهو سليم القلب نقيُّ الفطرة، مستقيمُ السلوك، متبعٌ لكتاب الله تعالى، مستجيبٌ لداعي الخير في قلبه، منصرفٌ عن شهوات نفسه الردية، وغواية الشيطان ووساوسه.
بلاغة الرسول r في هذا الحديث:
-في قول النبي r: "ضرب الله مثلا..." براعة استهلال من النبي r حيث بدأ بهذا الأسلوب الخبري مستخدمًا الفعل الماضي الذي يفيد التحقيق، وذلك تقريرا لهذا المثل، ولبيان أنه حق من عند الله تعالى، فلجأ إلى الأسلوب الخبري للتقرير ولتهيئة النفوس لسماع المثل المضروب من قبل الله تعالى.
-وفي قول النبي r: "ضرب الله مثلا" إجمال أعقبه بالتفصيل بعد ذلك في قوله: "صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران..."إلخ الحديث.
-وفي قول النبي r: "صراطًا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران"، وكذلك قوله: "سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة" أعاد الاسم الظاهر بدل الضمير في كل ذلك، حيث كانت الجادّة أن يقول: صراطا مستقيما وعلى جنبتيه، وكذلك: أبواب مفتحة وعليها ستور ولكنه أعاد الاسم الظاهر بدل الضمير، لإيضاح صورة المثل وتقريره في الأذهان، فتتمثلُ النفس مفرداتِ هذا المثلِ المضروبِ، وتستحضرها في المخيلة فلا تغيب عنها، حتى يتقرر المثلُ في النفوس.
-وفي قول النبي r: "وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا". الكلام المذكور هنا مناسب لهذا الداعي على باب الصراط وهو القرآن الكريم كما فسرّه النبي r، فدعوته عامة للناس جميعا، وهو يدعو إلى لزوم حدود الله تعالى والاستقامة على منهجه، ولذا نجد هذه الأساليب الإنشائية:
*النداء في "يا أيها الناس".
*والأمر في "ادخلوا الصراط".
*والنهي في "ولاتعوّجوا".
وهذه الأساليب الإنشائية الغرض منها الحثُّ والترغيب في لزوم منهج الله تعالى، وهي تناسب دعوة القرآن، وتناسب وصفه واعظا، داعيا عباد الله إلى سبيل الرشاد.
وذكر النبي r دعوة الداعي على باب الصراط، وهو القرآن الكريم لأنها معلومة واضحة محددة، وترك بيان دعوة الداعي فوق الصراط، وهو ضمير المسلم، وواعظ الله تعالى في قلبه، وذلك لأن موعظته ودعوته مختلفة غير محددة فهي تختلف باختلاف المواقف، بحسب ما يقدم عليه المرء من المخالفة؛ فإذا أراد أن يفتح بابا من أبواب الشر قال له: ويحك لا تفتحه.
وهذا أسلوب إنشائي يراد به الترحم والإشفاق على من أقدم على مهلكة.
ولنا لقاء آخر بمشيئة الله تعالى نبين فيه صورا أخرى من بلاغة الرسول r في هذا الحديث.
هذا وبالله التوفيق




الحلقة الرابعة

عن النواس بن سمعان عن رسول الله r قال: "ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا. وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك! لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم"([4]).
المعنى العام للحديث:
في هذا الحديث يكشف النبي r عن سر من أسرار هذه النفس البشرية، وغريزة من غرائزها، وهذه الغريزة هي غريزة الكشف والتطلع، وقد وقف عمر –رضي الله عنه- على هذه الغريزة فحذر منها حيث قال: "اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها طلعة، فإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية" فمن سمات النفس البشرية أنها طلعة تتطلع إلى ما ليس في يدها.
وهذه الغريزة تكون خيرًا حينما يستعملها الإنسان في الخير وتكون شرّا ووبالا عليه حينما يستعملها الإنسان في استكشاف المخبوء عنه من الشر، وإزاحة الستر عما ستر عنه من الشهوات الرديّة المهلكة.
وهذا إعجاز نبوي، وسبق من النبي r في علوم النفس البشرية، حيث كشف النبي r عن هذه الغريزة الخطيرة مبينا أثرها في هلاك الإنسان وإضلاله حينما يستعملها في الشر والغواية.
ومن تأمل الواقع ونظر في قصص الغاوين والهالكين علم أن سبب غوايتهم وهلاكهم هو الفضول في معرفة مالم يجربوه من الشر، فأدى بهم ذلك إلى الهلاك بالوقوع فيه.
وفي هذا الحديث يحذرنا النبي r من النفس الأمارة بالسوء الداعية إلى الشبهات والشهوات، فهي كما قال عمر –رضي الله عنه- طُلَعةٌ أي: كثيرة التطلع إلى ما ليس لها؛ فهي تدعو الإنسان أن يفتح أبواب الشر، وأن ينظر ما فيها حبّا للتطلع، ورغبة في إرضاء فضول النفس، فإن هو فعل أغراه ما في الشر من زخرف وزينة باطلة فوقع في الحرام، وذلك كما يقول النبي r في الحديث الآخر: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام..." إلخ الحديث.
كما يلفتنا النبي r كذلك إلى ما فيه الفلاح والنجاة من تلك الشرور والمهالك، وهو كتاب الله تعالى، فهو الواعظ على رأس الصراط، وهو الداعي إلى منهج الله تعالى وصراطه المستقيم، فمن تبعه عصمه الله، وجنبه الزلل والهلاك وكذلك واعظ الله في قلب كل مسلم، وهو ضميره اليقظ، وإلهامُ المَلكِ الموكلِ بذلك المسلمِ يلهمُه الخيرَ ويذكرهُ به؛ فإن أطاعه أفلح ونجا، وإن لم يُطعه لم يجد إلا حديث النفس والشيطانِ ووساوسَه، فينتهي به إلى شر غاية.
بلاغة الرسول r في هذا الحديث:
-أوضح سمة لبلاغة الرسول r في هذا الحديث هي توظيف التمثيل بما له من أثر في تقرير الحقيقة في النفس وإيضاحها لها، وذلك عن طريق التشبيهات المتعددة التي ترسم هذه الصورة التمثيلية الرائعة من صور التشبيه التمثيلي.
-فالنبي r يشبه الإسلام بالصراط أو الطريق المستقيم، وهذا تشبيه دقيق؛ وذلك لأن الطريق المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين؛ ومن ثم فهو أقرب الطرق الموصلة إلى الله.
والإسلام بمعناه الشرعي وهو الانقياد والاستسلام لأوامر الله تعالى وإتباعُ منهجه هو الدّينُ الذي لا يرضى الله تعالى دينا سواه، وهو الطريق الأوحد الذي يصل بصاحبه إلى الله تعالى، وما سواه طرق معوجة تضل بصاحبها عن سواء السبيل.
-ويشبه النبي r حدود الله تعالى بسورين، وحدود الله تعالى هي ما أحلّ الله تعالى، وما حرّم؛ وهي ما بينها الله تعالى بقوله: }تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا{ ، وقوله: }تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا{.
فالمسلم عليه أن يلتزم بالحلال لا يتعداه إلى ما سواه من المحرمات ومن الأمور المشتبهاتِ، وعليه أن يعرف حدود الله تعالى في الحرمات فلا يقربها، وتشبيه النبي r للحدود بالأسوار هو من البلاغة بمكان لأن الأسوار هي حصون المدينة، فإذا اخترقت الحصونُ سقطت المدينة، فكذلك الإسلام إذا تعدّى المرء حدوده فسرعان ما يهلك ويتهدم إسلامه، ويبقى قلبه خربا خاليا من الدين والتقى.
-وكذلك يشبه النبي r الفتن من الحرمات كالزنى والخمر والسرقة ونحوها من الكبائر بالأبواب المفتوحة ذاتِِ الستور المرخاة عليها، وهذا تشبيه دقيق لتلك الفتن فهي منصوبة على جنبتي الطريق فتنة وابتلاء للسائرين، ولكن الله سبحانه من رحمته بعباده لا يوقع فيها إلا من يكشف أستارها، ويتطلع إلى ما فيها، أما من أغمص عينه عنها، ولم يتطلع إلى كشف أستارها فإنها تظل مستورة عنه ويظل في مأمن منها.
-كذلك يشبه النبي r القرآن بالداعي إلى منهج الله تعالى على رأس الصراط وذلك لأنه أصل الهداية ومنشؤها، وبداية الطريق إلى الله تعالى.
-وكذلك يشبه النبي r ضمير المؤمن وواعظه من الله تعالى في قلبه بداع يدعو فوق الصراط، وذلك لملازمته للمؤمن على الدوام فهو كأنه قائم فوق صراط الحق يدعوه إلى الله تعالى.
-ومن مجموع هذه الصور السابقة يتركب التشبيه التمثيلي الذي يمثل صورة كلية تتركب من عناصر شتى يقوم عليها المثل المضروب في هذا الحديث.
-وقول النبي r في بيان هذا المثل وتفسيره، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله...إلخ. أساليب خبرية يقرر بها النبي r حقيقة المثل في نفس السامع ويوضحها له.
هذا وبالله التوفيق




الحلقة الخامسة

عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله r يقول: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقي ذلك من درنه شيئًا؟ قالوا: لا يبقي ذلك من درنه شيئا يا رسول الله. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا"([5]).
المعنى العام للحديث:
للصلاة منزلة عظيمة في الإسلام فهي أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام كما أخبر بذلك النبي r ، وهي عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، وقد جعلها النبي r حاجزًا بين المرء وبين الشرك والكفر، فقال: بين المرء وبين الشرك والكفر ترك الصلاة.
وأخبر النبي r أنها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة فإن صلحت صلحت وسائر عمله وإن فسدت فسدت وسائر عمله.
وفي هذا الحديث الجليل يبين النبي r فضل الصلوات الخمس، وعظيم أثرها في محو الذنوب، وتكفير السيئات، وتطهير الإنسان من أدرانه وأرجاسه المتمثلة في آفات النفوس وعللها وأمراضها الباطنية من الحقد والحسد والشحناء والبغضاء والكبر والغرور والخيلاء والرياء والتعلق بالشهوات والفحشاء.
فبين النبي r أثر الصلاة في تطهير النفوس من تلك الأمراض مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى:}وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ { كما يبين النبي r أثر الصلاة في تكفير تلك الذنوب والسيئات، فهي تكون سببا لتطهير العبد من ذنوبه وسيئاته، كما يغسل الماء الكثير الجسد ويطهره من الأوساخ والأدران.
وهذا المعنى قد بينه النبي r في أحاديث كثيرة.
منها قوله r: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
بلاغة الرسول r في هذا الحديث:
-في قول النبي r "أرأيتم" أسلوب إنشائي استفهامي الغرض منه التشويق والتحفيز للسماع وجذبِ انتباه المخاطبين لبيان فضل الصلاة وأثرها في تكفير الذنوب.
-وفي قوله "لو أن نهرًا" جاء تنكير النهر هنا للتعظيم، فكأنه قال: لو أن نهرًا عظيما.
-وفي قوله "بباب أحدكم" الباء للإلصاق، والمعنى: أنه نهر ملصق بباب أحدهم، وهذا مثل لقرب ذلك النهر وتيسره، كما أن الصلاة قريبة ميسرة لا تتعسر ولا تشق عليك في أي وقت أردتها.
-وفي قوله "يغتسل" التعبير بالفعل المضارع هنا يفيد الاستمرارية والمداومة وكذلك أمر الصلاة، لا تأتي بأثرها إلا مع الاستمرار والمداومة.
-وفي قول النبي r: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات...إلخ" الحديث فيه تشبيه تمثيلي رائع حيث شبه النبي r المصلي الذي يقبل على صلاته فتعمل أثرها بتطهير قلبه ونفسه، فيكفر الله تعالى عنه ذنوبه وخطاياه، يشبهه بحال المغتسل الذي يغتسل بنهر جار كثيرٍ ماؤه كل يوم خمس مرات، فينقيه من أوساخه وأدرانه، فيخرج نظيفا طاهرًا، فشبه النبي r الطهارة الروحية المعنوية الباطنة بالطهارة الحسية المادية الظاهرة، ووجه الشبه الجامعُ بينهما هو التطهير الحاصلُ في كل من الحالتين و الهيئتين.
-وفي قول النبي r: "هل يبقي ذلك من درنه شيئًا؟" أسلوب إنشائي استفهامي الغرض منه تقرير المخاطب بفضل الصلاة وأثرها في تكفير الذنوب بعدما اتضح له الأمر من خلال التمثيل المضروب.
-وفي قوله r: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا" أسلوب خبري تقريري الغرض منه تقرير تلك الحقيقة في بيان فضل الصلاة بعدما اتضح ذلك من خلال التشبيه والتمثيل.
-والإشارة في قوله r "فذلك" للتعظيم والتقرير.
هذا وبالله التوفيق
الحلقة السادسة
أهمية النية في حياة المسلم وعلاقته بربه ومجتمعه:
هذا الحديث يلفتنا إلى أمر عظيم، ألا وهو أهمية النية في حياة المسلم، فالمسلم إذا علم أن عمله لا يحتسب إلا بالنية، وأنه لا يؤجر عليه إلا بقدر ما نوى، فعليه أن يحسن نيته في الأمور كلها، وأن يهيئ لكل عمل نية صالحة، وقد قال أحد السلف لأخيه: ألا تمشي في جنازة فلان؟ فقال: أمهلني حتى أحدث نية.
فقد كان السلف الصالح يتحرَّون في نياتهم، ويعتنون بها لأنها هي رأس مالهم في تجارتهم مع الله تعالى، وقد روي (نية المؤمن خير من عمله) فقد يؤجر المرء على النية ما لا يؤجر على العمل.
فعلى المسلم أن يجتهد في إصلاح نيته وتعظيمها، فيعد لكل عمل نيات عظيمة لا نية واحدة، فإذا طلب العلم أو ذاكر دروسه جعل نيته معرفة آيات الله في صفحة الكون، ومعرفة دلائل قدرته وربوبيته، ونفعَ نفسه وأهله ووطنه، وكفايةَ المسلمين في الجانب الذي يدرسه، وغيرَ ذلك من النوايا الصالحة.
وإذا عمل عملا للناس كانت نيته فيه ابتغاء الأجر من الله تعالى بإتقانه والوفاء فيه وعدمِ الغش والخداع، وابتغاءِ النصح فيه للناس، وابتغاءِ الأجر من الله تعالى في حسن معاملتهم، وخطب ودهم ومعروفهم في الله تعالى بذلك.
وبهذا تكون النية وسيلة عظيمة للتجارة الرابحة مع الله تعالى، وإصلاح العلاقة مع الناس، فيصلح المجتمع المسلم بذلك، ويرفرف عليه الخير والأمن والسلام.
بلاغة الرسول r في هذا الحديث:
سبق أن تكلمنا على بلاغة النبي r في قوله: "إنما الأعمال بالنيات" وهذه الجملة قد أتبعها النبي r بجملة أخرى لا تقل بلاغة عنها وهي قوله r : "وإنما لكل امرئ ما نوى"، وفيها وجوه عظيمة من البلاغة كذلك، فمن ذلك: التوكيد والقصر بإنما، وكذلك الإيجاز بالحذف حيث إن التقدير "وإنما لكل امرئ أجر أو وزر ما نوى إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر".
فقد قصر النبي r ما يعود على الإنسان من أجر أو وزر على نيته وحدها.
وهذا الأسلوب "وإنما لكل امرئ ما نوى" هو في قوة الحصر بالنفي والاستثناء ولكنه يتميز عليه بالإيجاز، فكأنه قال: (ليس لكل امرئ إلا أجر أو وزرُ ما نوى)
وهذه الجملة تعد كالتوكيد للجملة الأولى، فقد أخبر النبي r في الجملة الأولى أن الأعمال لا تعتبر إلا بالنية، وهذا أسلوب خبري تقريري لتقرير هذه الحقيقة ثم أتبع ذلك بتوكيد وبيان تلك الحقيقة.
وقيل إن في هذه الجملة مزيدَ فائدة عن الأولى وهي الإشارة إلى أن تعيين المنوي شرط فما دام أنه ليس له إلا ما نوى، فمعنى ذلك أنه لا عبرة بالعمل إذا جاء مخالفا للنية، فمن ذهب لزيارة مريض مثلا ولكن ليست نيته عيادة المريض ابتغاء وجه الله تعالى، وإنما نيته أن ينال معروفه وإحسانه أو يقضي له حاجة مثلا، فإنه لا يحصل له أجر عيادة المريض لأنه لم يخطر له ببال.
وقول النبي r فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه، فيه من البلاغة وجوه منها:
-التفصيل بعد الإجمال، وذلك أن مقتضى قول النبي r: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ من نوى" أن له أجر ما نوى إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر. فهذا هو المعنى على الإجمال، ثم جاء بقية الحديث: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله...إلخ تفصيلا لما أجمله النبي r أولا وبيانا له.
-وقول النبي r: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله" فيه بلاغة عظيمة بالإيجاز بالحذف حيث إن تقديره "فمن كانت نية هجرته أن يهاجر إلى أمر الله ورسوله، فأجر هجرته أجر هجرة إلى أمر الله ورسوله".
-ومطابقة النبي r بين ألفاظ الجملتين بإعادتهما بألفاظهما لكي يطابق بين العمل والنية فيجعلهما متساويين متطابقين فيستحق العبد الجزاء على ذلك مطابقًا للعمل ومساويًا له.
أما في الفقرة الأخيرة لماّ كان هذا العمل من الهجرة إلى الدنيا أو النكاح قد تتعدد أغراضه وتتفاوت، لذا أطلق النبي r جواب الشرط بقوله: فهجرته إلى ما هاجر إليه، ولم يعد لفظ الشرط المشتمل على العمل لكي لا يدل على نية محددة، وإنما جعله مطلقًا ليتسع للنوايا والمقاصد المتعددة والمتفاوتة في هذه الأعمال الدنيوية.
وفي تنكير النبي r للفظ "دنيا" دل على تحقيرها والتهوين من شأنها.
وتنكير "امرأة" جاء لدنو المقصد بالنسبة لمن هاجر إلى الله ورسوله، وجاء ذكر المرأة بعد الدنيا من باب ذكر الخاص بعد العام وذلك لزيادة التحذير من الفتنة في أمر النساء.
كما أن في الحديث مقابلة بين سعيين مختلفين: بالهجرة إلى الله ورسوله، والهجرة لأجل الدنيا والمرأة.
هذا وبالله التوفيق
([1])أخرجه البخاري في كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله r، ومسلم في كتاب الإمارة، باب: إنما الأعمال بالنية (151).
([2])أخرجه البخاري في الإيمان (29)، ومسلم في كتاب العيدين (884).
([3])أخرجه أحمد بن حنبل، والحاكم، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (3887).
([4])أخرجه أحمد بن حنبل، والحاكم، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (3887).
([5])أخرجه البخاري في كتاب المواقيت، باب: الصلوات الخمس كفارة (528)، ومسلم (2/131-132)، والنسائي (1/81)، والترمذي (2/142)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وأحمد (2/379)، الدارمي (1/367)، وأبوعوانة في صحيحه (2/20)، وصححه الألباني في إرواء الغليل برقم (15).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق