الجمعة، 8 مايو 2009

المناهج النقدية
اختلاف المناهج النقدية وتعددها:
لقد اختلفت مناهج النقد، وتنوعت طرقه؛ وذلك باختلاف النقاد، واختلاف العلوم التي أفادوا منها في دراستهم للأدب، وتعرضهم لنقده، وقد تعددت هذه العلوم، وتنوعت ما بين علوم اللغة، والتاريخ، والفلسفة، وعلم النفس، والاجتماع... إلخ.
كما تدخلت الظروف السياسية أو الدينية في فرض بعض تلك المناهج النقدية، وذلك كما في النقد المذهبي، فقد كان تأثير الدين والسلطة الإسلامية واضحًا في ظهور ذلك النوع من النقد في عصر صدر الإسلام، كما كان للظروف السياسية في روسيا أثرها في فرض منهج النقد المذهبي الذي يقيد الأديب بضرورة خدمة المجتمع، والدفاع عن المبادئ الاشتراكية الروسية.
ويمكن أن نذكر هنا أهم تلك المناهج النقدية، وهي:
1-المنهج الكلاسيكي الاتباعي:
وهو ذلك المنهج الذي يقوم على الالتزام بالأصول والتقاليد الفنية الموروثة، ويرى ضرورة اتباعها، وعدم الخروج عليها.
وخير ما يمثل ذلك المنهج هو النقد العربي في فترة طويلة من تاريخه، فقد زاول النقد العربي –لفترات طويلة- هذا الأسلوب في النقد، وبخاصة حين استقر ما عُرف بعمود الشعر([1])، أو مجموعة الأسس الفنية التي يجب على الشاعر أن يحققها في مجالي المعنى واللفظ، لكي يسير على تقاليد القدماء أصحاب الأصالة والسبق، وبذلك يصل إلى المرتبة العالية التي بلغوها.
وخير من حاول تحديد مفهوم عمود الشعر هو المرزوقي (ت 421هـ) في مقدمته لشرح ديوان الحماسة، إذ يقول عن القدماء الذين أرسوا الخصائص المميزة للصنعة الفنية: "إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف –ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات- والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم، والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا تحدث منافرة بينهما، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر. ولكل باب منها معيار"([2]). وقد مضى المرزوقي شارحًا ومحللاً هذه الأصول الفنية، ثم انتهى إلى إعلان الرأي العام العربي الذواقة للشعر، "فمن لزمها بحقها وبنى شعره عليها، فهو عندهم المفلق المعظم، والمحسن المقدم، ومن لم يجمعها كلها، فبقدر سهمته منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان، وهذا إجماع مأخوذ به ومنهج متبع حتى الآن"([3]).

2-المنهج الرومانسي التأثري:
وهو ذلك المنهج الذي يقوم على التحرر من الأصول الموروثة، وتعظيم الذوق الفردي بناء على أن الإنسان مقيد بشخصيته، وأنه ليست هناك مقاييس يستطيع أن يزن بها أفكاره، أو أفكار غيره، فالشخصيات تختلف؛ ولذا ينبغي أنه يفهم كل قارئ العمل الفني حسب طبيعته، أي: ميوله النفسية واستعداده الكافي.
ويمكن أن يعقد الشبه هنا بين هذا المنهج وبين اتجاه التجديد الذي شاع في العصر العباسي وتزعمه أبو نواس، وبشار، ومسلم بن الوليد، وأضرابهم ممن نحو نحو التجديد والخروج على عمود الشعر القديم.
وسوف نعرض لذلك تفصيلاً في الفصل الخاص بالخصومة بين القدماء والمحدثين.
3-المنهج المذهبي:
وهو ذلك النوع من النقد الذي يقوم فيه الناقد المنتمي إلى مذهب معين –مع تنوع معارفه وأدواته الفنية- بقبول أو رفض النص الأدبي على أساس من عقيدته الخاصة كالمذهب الديني، أو المذهبي الخلقي، أو السياسي.
وهذا الاتجاه النقدي لم يعدم أنصارًا له في مختلف العصور، وسوف نشير إلى أمثلة له في عصر صدر الإسلام في توجيهات النبي r، والخلفاء من بعده للشعراء، وقد تبادل الشعراء والأدباء من الشيعة، والخوارج، والمعتزلة وجوه النقد التي ترجع إلى تلك الأصول المذهبية التي يلتزم بها كل فريق من تلك الفرق.
وفي العصر الحديث جددت الواقعية الاشتراكية الدعوة إلى ذلك النوع من النقد، حتى صار ذلك الاتجاه النقدي المذهبي لا يكاد يعرف في غير الاتجاه الواقعي الاشتراكي أو الماركسي في الأدب والنقد.
وإذا كان النقد في الاتجاه الجمالي الشكلي يركز على المتعة الجمالية الخالصة، فإن هذا النقد المذهبي يدعو إلى ضرورة المشاركة الاجتماعية، وخدمة قضايا المجتمع والارتقاء به. ولم يعدم هذا الاتجاه من يدافع عنه من النقاد المعاصرين، فالناقد الكبير الأستاذ الدكتور محمد مندور يدافع عن هذا النقد المذهبي، الذي يستند إلى إدراك جديد لوظيفة الأدب والفن بصفة عامة، فلم يعد الأدب –عند دعاته- نشاطًا جماليًا خالصًا هدفه الإمتاع، وإنما هو مشاركة اجتماعية ضرورية. ومن هذا المنطق فإن الناقد المذهبي يفضل التجربة الحية المعيشة على التجربة التاريخية البالية، وبخاصة إذا لم تصلح وعاء لمشكلة معاصرة تشغل الأديب أو تشغل مجتمعه وإنسانيته الراهنة، والناقد المذهبي لا يكتفي بالموضوع العام للعمل الفني، بل يهتم بالمضمون، أي بما يفرغه الأديب من أفكار، وأحاسيس، ووجهة نظر خاصة، وهذه الأفكار –من موقف النقد المذهبي- يجب أن تكون في خدمة الحياة وتطويرها نحو ما هو أجمل، وأفضل، وأكثر إسعادًا للبشر، وأن الأديب يجب أن يزاول هذا الدور المنوط به، لا من موقف المعبر عن واقع مباشر -أي أن يكون فنه صدى للحياة- بل يجب أن يكون مبشرًا بالمستقبل، قائدًا لصنع الغد الأكثر تقدمًا وجمالاً([4]).
من هذه المنطلقات الأساسية يناصر الناقد المذهبي القضايا الأدبية والمواقف الفنية التي تساير فلسفته، مثل قضية الفن للحياة، وقضية الالتزام في الأدب والفن، وقضية الواقعية في الأدب والفن، وتفضيل الأدب القائد على الأدب والفن الصدى، ويرفض ما يخالف ذلك، كما يرفض النظرة المتشائمة إلى الإنسان، وإلى الحياة، ويدعو إلى التفاؤل، وهذا الموقف المتفائل –عند المذهبيين- لا يقوم على إنكار وجود الشر في الحياة، ولكن على الإيمان بأن الشر ليس أصيلاً في الطبع الإنساني، وإنما هو عَرَض تولده عند الأفراد ظروف المجتمع الفاسدة، وقشرة يكمن تحتها خير راسخ. ومن ثم لا محل للتشاؤم؛ لأن أسباب الشر من الممكن إزالتها، بل يرون أنها يومًا ستزول، ويعود الإنسان خيِّرًا حين يلتقي مع فطرته الأصلية، وهذا مصدر تفاؤلهم.
وهذه القضايا جميعًا تستحق المناقشة، وقد أثارت نقاشًا حادًا في العالم العربي في الخمسينيات من القرن الماضي بخاصة.
ومن الممكن أن يقال عن الاتجاه المذهبي (أو الأيديولوجي) في النقد: إنه منهج لا يريد أن يسلب الأديب أو الفنان حريته، وأنه يرجو أن يستجيب الأدب وكاتبه لحاجات عصره وقيم مجتمعه بطريقة تلقائية، ويرى أنه لابد سيستجيب لذلك إذا فهم وضعه الحقيقي في المجتمع، وأدرك مسئوليته الكاملة ونهض بالدور القيادي الحر الذي يعزز مكانته، ويرتفع بها إلى مستوى الإيجابية الفعالة، التي يُعتبر الاحتفاظ بالقيم الفنية الجمالية أهم وسيلة لتحقيقها؛ لأن الأدب والفن بغير القيم الجمالية والفنية لا يفقد طابعه المميز فحسب، بل يفقد أيضًا فاعليته، ترتيبًا على أن تلك القيم الجمالية والفنية هي التي تمنحه القدرة على التأثير، وتفتح أمامه العقول والقلوب.
من الممكن أن يقال هذا كله من المعتنقين للنقد المذهبي ودعاة المذهبية في الأدب والفن، ولكن النظرية أو الدعوة لابد أن تحمل بعض حقائقها من التطبيق، وأن يدخل في مفهومها ما انتهت إليه من نتائج([5]).

4-المنهج التاريخي:
وهو ذلك المنهج الذي يركز تركيزًا كبيرًا على التاريخ في تفسير الأدب، حيث يرى دعاة هذا المذهب أن الظاهرة الأدبية لا تفهم حق الفهم إلا إذا كنا على وعي بتاريخ ميلادها، وأن كل مؤلف من المؤلفات هو إحدى ثمار عصره، وأن إبداع الشاعر أو الكاتب هو مرآة تتجلى فيها طبيعة البيئة التي نشأ فيها، والحقبة التاريخية التي أبدع خلالها.
لقد بلور الناقد الفرنسي "هيبوليت تين"([6]) معالم هذا المنهج حين حدد الأسس أو المعايير التي ينبغي التركيز عليها في تفسير الإنتاج الأدبي، وهي:
1- الجنس.
2- البيئة.
3- العصر.
وهو يقصد بالجنس: مجموع الاستعدادات الفطرية التي تميز مجموعة من الناس انحدروا من أصل واحد، وهذه الاستعدادات مرتبطة بالفروق الملحوظة في مزاج الفرد وتركيبه العضوي، وهذا العامل -في نظر هيبوليت تين - هو أقوى العوامل الثلاثة في اختلاف الإنتاج الفكري؛ وذلك أن كل جنس من الأجناس البشرية خضع لعوامل واحدة من البيئة الطبيعية، ونظام الحكم، والعادات والتقاليد، وقد امتد هذا الخضوع إلى الوراء في التاريخ قرونًا سحيقة لا سبيل إلى إحصائها، ولا إلى دراستها، وبتأثير هذا الخضوع الطويل يكتسب الجنس –ضرورة- صفات مشتركة تنزل منه منزلة الغرائز الفطرية التي لا سبيل إلى محوها.
ويقصد بالبيئة: ما يحيط بالجنس من عوامل طبيعية ترجع إلى حالة الإقليم الذي يسكنه، والعوامل السياسية أو الاجتماعية التي تؤثر في تفكيره. مع ملاحظة أن طبيعة الإقليم تؤثر في الجنس تأثيرًا دائمًا ملازمًا، أما العوامل السياسية أو الاجتماعية فإنها تتغير بتغير العصور. ويسوق "تين" مثلا لهذا العامل: أن "بوالو" و"راسين" و"بوسيه" على اختلافهم عند الموازنة بينهم، وعلى تميز كل منهم عن الآخر يتفقون في خصائص تبين عن طابعهم الفرنسي.
ويقصد بالعصر: تأثير الممارسات الإبداعية في جنس من أجناس الأدب في ممارسات العصور التالي لها، وقد حصر "تين" هذا العامل في نطاق الأدب الواحد، وقد أوضح تأثير هذا العامل بأمثلة من الأدبين الفرنسي والإيطالي، ويمكن أن نمثل له –في نطاق أدبنا العربي- بتأثر "الحريري" في مقاماته الأدبية "ببديع الزمان الهمذاني"، حيث سار على نهجه أو احتذى حذوه بدافع الميراث الثقافي، والأسس الفنية التي ورثها عنه.
ونحب أن نشير هنا إلى أن التراث النقدي العربي قد حفل بكثير من المقولات النقدية، التي يمكن أن تدرج في إطار هذا المنهج، وإن جاءت في صورة جزئية تمثل طبيعة العصر الذي قيلت فيه. فمن ذلك على سبيل المثال:
-تعليل ابن سلام الجمحي للين شعر عدي بن زيد، وسهولة منطقه بأنه: "كان يسكن الحيرة ويراكز الريف"([7]). وتفسيره لقلة الشعر في مكة والطائف بقلة الحروب، فهو يقول: "وبالطائف شعراء وليس بالكثير، وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا"([8]).
-تفسير ابن الأثير لما تميز به شعر الشعراء المحدثين من ابتداع المعاني، ولطف المأخذ، ودقة النظر بأن هؤلاء قد "اتسع الملك الإسلامي في زمانهم، ورأوا ما لم يره المتقدمون"([9]).
-تعليل القاضي الجرجاني لاختلاف نمط التعبير الشعري من شاعر لآخر، وذلك حيث يقول:
"وقد كان القوم يختلفون في ذلك، وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم، ويصلب شعر الآخر، ويسهل لفظ أحدهم، ويتوعر منطق غيره، وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع، وتركيب الخلقة، وأنت تجد ذلك ظاهرًا في أهل عصرك وأبناء زمانك، وترى الجلف منهم كز الألفاظ، معقد الكلام، وعر الخطاب.. ومن شأن البداوة أن تحدث بعض ذلك .. فلما ضرب الإسلام بجرانه، واتسعت ممالك العرب، وكثرت الحواضر، ونزعت البوادي إلى القرى، وفشا التأدب والتظرف اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله.."([10]).
أما في العصر الحديث: فقد نما هذا المنهج التاريخي، وتعددت الدراسات التي اهتدت بمعالمه، ومن أبرز هذه الدراسات: "ذكرى أبي العلاء" للدكتور طه حسين، وكتب "فجر الإسلام – ضحى الإسلام – ظهر الإسلام" للدكتور أحمد أمين، و"النثر الفني في القرن الرابع" للدكتور زكي مبارك، و"التيارات الفكرية التي أثرت في دراسة الأدب" للدكتور محمد خلف الله، و"النقائض في الشعر العربي" للأستاذ أحمد الشايب، وغيرها.
ولعل في الفقرات التالية التي نقتبسها من مقدمة الدكتور طه حسين لكتابه "ذكرى أبي العلاء" ما يوضح أسس هذا المنهج، وأبرز ملامحه، فهو يقول: "لم يكن لحكيم المعرة أن ينفرد بإظهار آثاره المادية والمعنوية، وإنما الرجل، وماله من آثار وأطوار نتيجة لازمة، وثمرة ناضجة لطائفة من العلل التي اشتركت في تأليف مزاجه، وتصوير نفسه من غير أن يكون له عليها سيطرة أو سلطان".
"فأبو العلاء ثمرة من ثمرات عصره، قد عمل في إنضاجها الزمان، والمكان، والحالة السياسية، والاجتماعية، بل والحالة الاقتصادية، ولسنا نحتاج إلى أن نذكر الدين فإنه أظهر أثرًا من أن نشير إليه.
ولو أن الدليل المنطقي لم ينته بنا إلى هذه النتيجة؛ لكانت حال أبي العلاء نفسه منتهية بنا إليها، فإن الرجل لم يترك طائفة من الطوائف في عصره إلا أعطاها وأخذ منها -كما سنرى في هذا الكتاب- فقد حاج اليهود والنصارى، وناظر البوذيين والمجوس، واعترض على المسلمين، وجادل الفلاسفة والمتكلمين، وذم الصوفية، ونعى على الباطنية، وشنع على الفقهاء وأصحاب النسك، ولم يعف التجار والصناع من العذل واللوم، ولم يخل الأعراب وأهل البادية من التفنيد والتثريب، وهو في كل ذلك يرضى قليلاً ويسخط كثيرًا، ويظهر من الملل والضيق، ومن السأم وحرج الصدر ما يمثل الحياة في أيامه بشعة شديدة الظلام".
"... يدل ما قدمناه على أننا نرى الجبر في التاريخ، أي أن الحياة الاجتماعية إنما تأخذ أشكالها المختلفة، وتنزل منازلها المتباينة بتأثير العلل والأسباب، التي لا يملكها الإنسان، ولا يستطيع لها دفعًا ولا اكتسابًا".
"إنما الحادثة التاريخية، والقصيدة الشعرية، والخطبة يجيدها الخطيب، والرسالة ينمقها الكاتب الأديب. كل ذلك نسيج من العلل الاجتماعية والكونية يخضع للبحث والتحليل خضوع المادة في علم الكيمياء".
"وإذ قد بينا أن الرجل خاضع في أدبه وعلمه لزمانه ومكانه، فليس لنا بد من أن نقدم بين يدي هذا الكتاب فصلاً في عصر أبي العلاء وآخر في بلده، ولما كانت الأسرة أشد ما يحيك بالرجل أثرًا فيه خصصنا فصلاً آخر لأسرة أبي العلاء، فإذا ما فرغنا من هذا كله عمدنا إلى الحياة التاريخية للرجل ففصلناها تفصيلاً. ثم انتقلنا منها إلى منزلته الأدبية فبينا قسمته من الشعر والنثر، وخصائصه فيهما..".
بقى أن نتوقف قليلاً إزاء بعض المحاذير أو المخاطر التي يقود إليها –غالبًا- هذا المنهج، والتي أشار إليها ناقدوه([11]) بوصفها عيوبًا أو شوائب تشوب مسلكه، فمن ذلك:
1-الاستقراء الناقص: أي بناء الحكم على ملاحظة بعض الظواهر –دون استقصاء لسائر الظواهر- فحين درس الدكتور طه حسين –على سبيل المثال- "شعر أبي نواس في المجون" في العصر العباسي في كتابه "حديث الأربعاء" أرجع السر في ظهور هذا الشعر، أو في انتشاره إلى روح هذا العصر، وحكم مثل هذا كان يقتضي قبل إصداره دراسة سائر فنون القول في هذا العصر، في سائر فنون التفكير، في سائر مظاهرة الحياة، مع دراسة المستندات التاريخية الشاملة عن ملابسات تلك الفترة، ولعل الدكتور لو فعل ذلك لعدل عن هذا الحكم؛ لأن هذا العصر بعينه هو الذي ظهر فيه وانتشر "شعر الزهد"!!
2-الأحكام الجازمة: فالقطع بالحكم في تفسير الظاهرة الأدبية –في ظلال هذا المنهج- هو ضرب من المجازفة، فالحكم –على سبيل المثال- بأن اتساع نفوذ الفرس هو الذي أوجد في العصر العباسي شعر الخمريات والمجون، أو أن كثرة الجواري هي السبب في انتشار ظاهرة الغناء، أو أن عزلة الحجاز عن السياسة هي سر ظهور الغزل العذري والأموي.. إلخ –كلها أحكام تشوبها شائبة الجزم أي أنها ينبغي أن تساق مساق الظن والترجيح كأن نقول مثلاً: "لعل من أسباب ظهور الغزل العذري عزلة الحجاز عن السياسة"، فالترجيح لا الجزم هو الأسلوب الأمثل في التعليل لنشأة مثل تلك الظواهر، وذلك في ضوء ما هو معلوم من أن الظاهرة الأدبية أو الاجتماعية قلما تعزى نشأتها لسبب واحد.
3-إغفال خصوصية الفرد المبدع: فهذا المنهج إذ ينجح في تفسير الظواهر المشتركة، فإنه لا يستطيع تفسير العبقرية الفردية للشخص المبدع، فنحن نفهم جيدًا لماذا كانت الدراما الإنجليزية في القرن السادس عشر تنطوي على بعض الخصائص المعينة، ولكن لماذا كتب شكسبير كفرد قصصًا درامية، في حين أن آلافًا من معاصريه لم يفكروا في كتابتها؟ ولماذا كانت روايات شكسبير تفوق في جمالها روايات منافسيه؟ وما الذي جعل "المتنبي" يتفوق على شعراء عصره الذين أظلهم ما أظله من ظروف وملابسات؟!.
ويضاف إلى ذلك أن الأدب ليس تقريرًا للظواهر الحاضرة بقدر ما هو تعبير عن الأشواق البعيدة، والرغبات المكنونة، سواء للفرد أو للجماعات، وكثيرًا ما يكون الأدب نبوءات بعيدة، حقيقة أن الواقع الحاضر هو الذي يستدعي تلك النبوءات، ولكن الفرد الممتاز كثيرًا ما يسبق عصره، ويتنبأ -وحده- بما لا يدركه الآخرون، فحين يجيء ناقد يدرس مثل هذا الأديب –شكسبير- ويتخذ من أدبه صورة للبيئة وتعبيرًا عن العصر يخطئ في الحكم والتفسير([12]).
5-المنهج النفسي:
يركز هذا المنهج على البحث عن البواعث الداخلية، والدوافع النفسية الخلاقة التي أثرت في نفس المبدع، وأدت إلى التعبير عن تجربته في تلك الصورة الأدبية، وهذا المنهج يعد منهجًا قديمًا حديثًا في الوقت نفسه، إلا أننا نستطيع أن نحدد البداية العلمية الموضوعية أو المقننة بالنسبة له في بدايات القرن العشرين، وذلك بعد اكتشاف علماء النفس عالم اللاشعور، وبخاصة منذ أن نشر فرويد كتابه "تفسير الأحلام" سنة 1900م وأوضح فيه وجوه الشبه بين الحلم والإبداع الفني.
ففي عالم الحلم تتحقق حرية الحالم تمامًا، كما تتحقق حرية الأديب في الإبداع، وكل من الحلم والتعبير الفني تحقيق لرغبة مكبوتة في النفس، أو في منطقة "اللاشعور".
وعلى الرغم من أن فرويد يرى أن الشاعر والفنان –بعامة- يشبه كلاهما الحالم والمريض عصبيًا في استمدادهم جميعًا من اللاشعور، فإن الشاعر والفنان يتميزان عنده –مع ذلك- بأصالة في نتاجهما، فكلاهما قادر على أن يرتقي بمستوى أحلامه اليومية؛ لتصير إنسانية. وبعبارة أخرى "يتسامى" الشاعر بالأحلام الدنيا في حقيقتها الحسية، فتفقد طابعها الفردي المحض، وتصبح ممتعة للآخرين.
وقد أرجع فرويد كل الدوافع الإنسانية إلى غريزة الجنس أو الرغبة، وغريزة الموت، ويقصد بغريزة الموت أن في كل إنسان دوافع تضاد دوافع الحياة تهدف إلى الفناء والموت، ومن جرائها يسعى الإنسان إلى الهروب بمحاولة إعادة الحياة، وتظهر غريزة الموت كذلك في شكل خوف من الموت. أو ولوع بالقتل، أو نزعة إلى الانتحار.
وقد استدرك فرويد كثيرًا من أخطائه فيما يخص قصر الصور الأدبية على عالم الكبت، ومقارنة الفنان بالحالم أو المريض.
ويشير "يونج" –أحد تلامذة فرويد- إلى تأثير "اللاشعور الجماعي" على الفرد، فهو يرى أن في أعمق مناطق اللاشعور تكمن صور يشترك فيها الجنس البشري، وهي نماذج وراثية من عهد الإنسانية الأولى، وهي مصدر كثير من الخيالات والصور الخاصة بالجن والأرواح والسحرة، وهي صور تغذي الفن والشعر، وتنعكس في المنطقة العليا من الفكر، وفيها تتجلى آثار غريزية اجتماعية عامة تتأثر بها الإنسانية كلها، وتستجيب لها.
من خلال ما سبق نستطيع إدراك الزاوية التي تسلل من خلالها منهج التحليل النفسي إلى ميدان النقد الأدبي، وهي أن هذا المنهج يحاول –على طريقته- الإجابة عن كثير من الأسئلة التي تشغل الأذهان في هذا الميدان.
ويحسن بنا هنا أن نذكر بعض أمثلة تطبيقات هذا المنهج في القديم والحديث، أما في القديم:
أ-يقول ابن قتيبة:
"وللشعر دواع تحث البطيء، وتبعث المتكلف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب".
ويسوق ابن قتيبة أمثلة للتدليل على ذلك، فيقول: "قيل للحطيئة: أي الناس أشعر؟ فأخرج لسانًا دقيقًا كأنه لسان حية، فقال: هذا إذا طمع.
وقال أحمد بن يوسف الكاتب لأبي يعقوب الخريمي: مدائحك لمحمد بن منصور بن زياد (يعني كاتب البرامكة) أشعر من مراثيك فيه وأجود!! فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء.
وهذه عندي قصة الكميت في مدحه بني أمية وآل أبي طالب، فإنه كان يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي والهوى، وشعره في بني أمية أجود منه في الطالبيين، ولا أرى علة ذلك إلا قوة أسباب الطمع، وإيثار النفس لعاجل الدنيا عن آجل الآخرة.
ب-ويقول أبي هلال العسكري في بيان([13]) أثر الحالة النفسية في قوة الشعر أو ضعفه: "إذا أردت أن تصنع كلامًا فأخطِر معانيه ببالك، وتذوق له كرائم اللفظ. واعمله ما دمت في شباب نشاطك، فإذا غشيك الفتور وتخونك الملال فأمسك، فإن الكثير مع الملال قليل والنفيس مع الضجر خسيس، والخواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء، فتجد حاجتك، وتنال أربك من المنفعة، فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها، وقل عنك غناؤها".
وأما في الحديث، فقد ظهرت كثير من الدراسات التي حاولت تطبيق ذلك المنهج النفسي، ولكن بناء على دراسة أصحابها لنظرية فرويد في التحليل النفسي، من ذلك على سبيل المثال دراسات العقاد عن ابن الرومي، وأبي نواس، وجميل بثينة، وعمر بن أبي ربيعة، ومقالات المازني المتفرقة في "حصاد الهشيم"، و"خيوط العنكبوت"، ثم كتابه عن "بشار"، وكتابات الأستاذ النويهي عن ابن الرومي، وبشار، وأبي نواس، وكتاب الدكتور محمد خلف الله "من الوجهة النفسية في تفسير الأدب"، وكتاب الأستاذ أمين الخولي "رأي في أبي العلاء"، ودراسة الدكتور محمد غنيمي هلال عن الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية.
ونحب أن نذكر هنا مثالاً لتلك الدراسات، وهو:
من كتاب "بشار"([14]) للمازني:
يقول المازني عن هذا الشاعر: "فهو كان يهجو الناس، ويبسط لسانه فيهم، ويشنع عليهم ليرهبهم ويخيفهم، ويظفر بمالهم أو يبتزه على الأصح، فيعيش مترفًا منعمًا موسعًا عليه، ويبقى مخشى اللسان، وإذا كان على ضخامة جثته، ومتانة أسره، وشدة بنيته لا يستطيع أن يكون فاتكًا، لما مني به من العمى، فقد اتخذ من لسانه أداة للفتك والبطش، ووسيلة إلى استشعار القوة، وإفادة العزة.
ولم يكن ولوعه بالهجاء والتقحم على الناس بالشتم لحقد دفين ينطوي عليه، وعداوة كامنة يمسكها في قلبه، وضرواة طبيعية بالشر؛ بل لأنه كان يشعر بالنقص من ناحيتين: أنه كفيف، وأنه من الموالي، فلا يزال من أجل هذا يعالج أن يعوضه إذ كان لا يملك أن يغير ما به.. وفي طباع الإنسان أن يستر ضعفه أو يحاول أن يفيد عوضًا عما حرم أو فقده.
وفيما بقي من شعره وأخباره الدليل على شدة شعوره بعماه، فقد كان كثير الذكر له في شعره وكلامه... من ذلك:

يا قوم أُذني لبعضِ الحي عاشقةٌقالوا بمن لا ترى تهذي فقلتُ لهمْ
والأُذنُ تعشقُ قبلَ القلبِ أحياناالأذنُ كالعينِ تُوفي القلبَ ما كانا

وقوله:
وكاعب قالتْ لأترابهاهل يعشقُ الإنسان من لا يرىإن تكُ عيني لا ترى وجهها
يا قوم ما أعجب هذا الضريرْفقلتُ والدمعُ بعيني غزيرْفإنها صوِّرت في الضميرْ
ونود أن نشير هنا إلى أهم ما أخذ على هذا المنهج: فمن ذلك النظر إلى:
1-النص الأدبي بوصفه "وثيقة" لدراسة شخصية مبدعه، وهذا عكس الاتجاه المطلوب، إذ إن العمل الفني هو الحقيقة الأولى عند الناقد، وهو حقيقة قائمة بذاتها، وإذا تعرضنا لشخص مبعدها، فإنما لنزداد بها وعيًا، أما أن نجعل همنا أن ندرس الشاعر أو الكاتب من خلال آثاره العلمية، وكأنها جزء من وثائق لوصف حالة مرضية، فهذا ما لا يجدي على المستوى الفني، وإن أفاد منه علماء النفس.
2-إغفال الخصائص الفنية للعمل الفني، تلك الخصائص التي يعد الكشف عنها وتحليلها وتقويمها هو الوظيفة الأساسية للنقد الأدبي، يتجلى ذلك على سبيل المثال في يدي هذا الناقد إلى دراسات في الحواس، والجهاز العصبي، والجنس، والغدد... إلخ، كما يتجلى أيضًا في دراسة العقاد لشخصية أبي نواس، حيث بدا فيها وكأنه –كما قيل- "يتسلى بنظريات علماء النفس، أو يبرهن على فهمه لها وبروزه فيها" ومن ثم لم ترد –من خلال دراسته تلك- معرفة بشعر أبي نواس، ولا بأسرار عبقريته الشاعرة، فلقد كانت غاية العقاد هي أن يقنعنا بنرجسية أبي نواس، تلك النرجسية التي تطلعنا على جانب من أبي نواس "الشخص"، لا أبي نواس "الشاعر".
ولعل هذا هو ما دعا بعض المعاصرين إلى رفض المنهج النفسي برمته. يقول الدكتور محمد مندور في تبرير هذا الرفض في نظره([15]):
"عندما نستقرئ الدراسات الأدبية التي ظهرت في الفترة الأخيرة من حياتنا، نرى أن الدراسات التي انحرفت عن المنهج الأدبي المتكامل قد خرجت في الغالب الأعم عن مجال الأدب ودراسته إلى مجالات أخرى قد تكون نافعة في ذاتها، ولكنها لا تدخل في الأدب ونقده ودراسته، ولعل هذه الحقيقة قد كانت أوضح ما تكون في الدراسات التي صدرت عما يسمونه بالمنهج النفسي.. وإذا كان المجال لا يسمح بمناقشة النتائج المتعسفة التي أقحمها بعض الدارسين على شعر ابن الرومي وتطيره، وأبي نواس ونرجسيته وعقده النفسية، فإننا نتساءل عن جدوى هذه الدراسات على الأدب ونقده ودراسته كفن لغوي جميل، وكوسيلة من وسائل تهذيب البشر، ورفع مستواهم الروحي والذوقي والإنساني الفردي أو الاجتماعي، وهي دراسات أقصى ما نخلص به منها –إذا اعتدلت ولم تتعسف- صورًا نفسية لبعض الأدباء السابقين، ولكنها لا تجدي في تذوق أدبهم والتأثر به والإفادة منه أو من جيده في تربية نفوسنا...".
6-المنهج اللغوي (الفني):
يكاد هذا الاتجاه أن يكون أقدم المناهج على الإطلاق، وفي الوقت نفسه يعد من أحدث المناهج النقدية الحديثة.
فاتخاذ اللغة أساسًا لنقد الأدب قد بدأت خطواته الأولى بصورة أولية ساذجة –في غضون القرن الثاني للهجرة، وذلك على أيدي طائفة النحاة واللغويين والرواة الذين أصدروا أحكامهم على الشعر وانتقاداتهم للشعراء في ضوء بعض المقاييس النحوية أو اللغوية أو العروضية، التي كانت قد تحددت آنذاك، من أبرز هؤلاء: عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت117 هـ) ويحيى بن يعمر (ت 129هـ) وعيسى بن عمر الثقفي (ت149هـ) وأبي عمرو بن العلاء (ت154هـ)، وغيرهم.
من أمثلة هذا النقد: قول عيسى بن عمر: إن النابغة أساء في قوله:
فبتُّ كأني ساورتني ضئيلةٌ
من الرقشِ في أنيابها السمُّ ناقعُ
أن الصواب في نظره أن يقول: (ناقعًا)، ومن أمثلة ذلك ما يروى من أن أبي إسحاق الحضرمي ينتقد الفرزدق كثيرًا، فقد سمعه مرة ينشد:
إليكَ أميرَ المؤمنينَ رمتْ بناوعضَّ زمانٌ يا ابن مروانَ لم يدعْ
همومُ المنى والهوجلُ المتعسفُمن الناسِ إلا مسحتًا أو مجلفُ([16])
فقال له: على أي شيء ترفع (أو مجلف)؟ فقال الفرزدق: على ما يسوؤك وينوؤك، ثم قال: عليَّ أن أقول، وعليكم أن تحتجوا.. وقد أنكر على الفرزدق كذلك قوله:
مستقبلينَ شمالَ الشامِ تضربُناعلى عمائمنا تلقى وأرحلنا
بحاصبٍ من نديف القطن منثورِعلى زواحفَ تُزجى مخها ريرُ([17])
برفع كلمة (رير)، فلقد قال أبي إسحاق للفرزدق: ألا قلت: على زواحف نزجيها محاسير؟! وعند ذلك غضب الفرزدق، وهجاه بالبيت القائل:
فلو كان عبد الله مولى هجوته
ولكن عبد الله مولى مواليا
فقال له ابن أبي إسحاق: وقد لحنت أيضًا في قولك: مولى مواليا؛ إذ كان ينبغي أن تقول: مولى موالٍ!!
ومن ذلك أيضًا ما يروى من أن الأصمعي قد قرأ على أبي عمرو بن العلاء شعر النابغة الذبياني، فلما بلغ قوله في وصف الناقة:
مقذوفة بدخيس النحض بازلها
له صريفٌ صريفَ القعو بالمسدِ([18])

قال أبو عمرو: ما أضر عليه في ناقته ما وصف، فقال له: وكيف؟ قال: لأن صريف الفحول من النشاط وصريف الإناث من الإعياء والضجر!! كذا تكلمت العرب.
وقد تطور هذا الاتجاه اللغوي في تراثنا العربي تطورًا ملحوظًا في القرن الثالث الهجري، فإذا كانت نظرات هذا الجيل المبكر من علماء اللغة قد انحصرت –كما رأينا من خلال الأمثلة السابقة- في نطاق البحث عن جوانب الخطأ أو الصواب –نحويًا أو لغويًا أو عروضيًا- في لغة الشعر، فإن البحث عن أسرار الجمال الفني في تلك اللغة قد أصبح هو محور اهتمام طبقة "النقاد" الذين حملوا لواء النقد الأدبي منذ القرن الثالث، والذين أشار كثير منهم إلى أن وظيفة الناقد في تناوله للشعر ينبغي أن تتجاوز وظائف علماء النحو والعروض واللغة([19]).
هذا ما يلفتنا إليه القاضي الجرجاني، حيث يقول: "وأقل الناس حظًا في هذه الصناعة من اقتصر في اختياره ونفيه، وفي استجادته واستسقاطه على سلامة الوزن، إقامة الإعراب، وأداء اللغة".
ويفرق ابن الأثير بين نظرة النحوي، ونظرة عالم البيان (الناقد الأدبي) إلى اللغة، فيقول:
".. النحوي ينظر في دلالة الألفاظ على المعاني من جهة الوضع اللغوي، وتلك دلالة عامة، وصاحب علم البيان ينظر في فضيلة تلك الدلالة، وهي دلالة خاصة، والمراد بها أن تكون على هيئة مخصوصة من الحسن، وذلك أمر وراء النحو والإعراب، ألا ترى أن النحوي يفهم معنى الكلام المنظوم والمنثور، ويعلم مواقع إعرابه، ومع ذلك فإنه لا يفهم ما فيه من الفصاحة والبلاغة..".
أما أسس هذا المنهج، فقد عني بإيضاحها د. محمود الربيعي الذي يعد واحدًا من أبرز دعاة هذا المنهج في النقد العربي المعاصر، وقد بين تلك الأسس بصورة واضحة في مقال له بعنوان "كيف أقرأ العمل الأدبي" نذكر منه تلك الفقرات:
"الأدب نشاط إبداعي يتشكل في شكل لغوي، ومعنى هذا أنه تجربة إنسانية للأديب المبدع تأخذ طريقها إلى الآخرين عن طريق الشكل اللغوي الذي تتشكل فيه، فالأديب يلاحظ الواقع، ويتلقى منه مئات الانطباعات، التي تسقطها على ذهنه اليقظ حركة الحياة العادية، وهو لا يبدد هذه الانطباعات بل يختزنها، وهذا الاختزان أبعد ما يكون عن التجميد إنه الاحتفاظ بهذه الانطباعات حية متفاعلة مع العدد الهائل من انطباعات التجارب الماضية، وانطباعات التجارب المتخيلة، ومع تجدد الواقع، واختلاف المواقف، وتباين التجارب، تمتزج التجربة الأدبية الفعالة وتتآلف، وتسعى سعيًا دائبًا إلى أخذ شكلها اللغوي المناسب الذي يجعل منها كيانًا محسوسًا جماليًا".
"والمحور الأساسي في العمل الأدبي الإبداعي هو الشكل اللغوي الذي يأخذه؛ وذلك لأن الأدب تشكيل لغوي في نهاية الأمر، ولهذا ينبغي أن يكون المدخل إلى فهمه وتحليله وتقديره مدخلاً لغويًا، وأود أن أسارع فأقول: إن هذا المدخل اللغوي ينبغي أن يفصل نفسه من البداية عن الطريقة التقليدية التي تفهم من التناول اللغوي بشرح الألفاظ ونثر الشعر، والتنبيه على الصور البلاغية التقليدية من تشبيهات واستعارات، فمثل هذه الطريقة تشوه العمل الأدبي بدل أن تلقي الضوء عليه، وهي تغفل أمرًا حيويًا هو أن المقابل النثري للبيت الشعري ليس هو المعنى الشعري على الإطلاق، فالنسيج اللغوي، والإيقاع الكائن في الكلمات والتعابير، ونوع الصور والرموز المستخدمة.. كل ذلك وغيره جزء لا يتجزأ من المعنى الشعري".
"والعمل الأدبي يمثل –بصفته تكوينًا لغويًا- قيمة مستقلة تأخذ بعض عناصرها الأولية من "الواقع" لا بهدف تصوير هذا الواقع، وإنما بهدف تصوير "الحقيقة" التي هي أصل كل واقع ومرده، واستقلال العمل الأدبي على هذا النحو هو الذي لا يجعل قيمته عرضة للتغيير بتغير الظروف، وهو استقلال واسع يشمل استقلاله عن بيئته الزمانية والمكانية، كما يشمل استقلاله عن حياة قائله وشخصيته، فلو أن أعمال شكسبير مثلاً اعتمدت في فهمها وتقدير قيمتها على البيئة والعصر اللذين أنتجاها لما كان لها معنى ولا قدر خارج هذه البيئة وذلك العصر... وبالمثل فإن اعتماد العمل الأدبي اعتمادًا عضويًا على حياة منشئه، بحيث يكون انعكاسًا لهذه الحياة، وبحيث لا يفهم إلى في ضوئها –أمر يتناقض مع طبيعة العمل الأدبي بصفته كيانًا مستقلاً، لقد عاش امرؤ القيس –مثلاً- فترة جد محدودة على ظهر هذه الأرض، وليس أمامنا سبيل لإعادة تشكيل حياته التي أبدع فيها شعره يومًا بعد يوم، ونحن الآن نواجه الشعر بعد مئات السنين، ولو أصررنا على أن يكون فهم هذا الشعر متوقفًا على معرفة أحداث حياة صاحبه؛ لكان إصرارنا إصرارًا لا طائل تحته.
أولاً: لأنه لا سبيل –كما قلت- لإعطاء صورة "حرفية واقعية" لهذه الحياة.
وثانيًا: لأن المعاني الشعرية التي يتيحها لنا شعر امرئ القس أوسع وأعمق وأغنى... من أن تكون صورة لحياة مفردة بعينها، مهما كان من جسامة الأحداث التي حدثت في هذه الحياة".
ومع زعم أصحاب هذا المنهج أنه أفضل المناهج المعروضة على الإطلاق، فإننا نرى أن هذا المنهج لا يخلو من مثالب كذلك، نوجزها فيما يلي:
أولاً: أن وصفه بأنه منهج لغوي ليس مطابقًا لإجراءاته التطبيقية، إذا إنه يحول المعنى اللغوي إلى مضامين فلسفية عامة، هذه المضامين قد تكون بعيدة عن مراد المبدع وأفكاره التي أرادها؛ وحتى تتضح هذه النقطة، فلنقرأ هذا النص من مقالات د. الربيعي لنري كيف يتحول المعنى الشعري في إطار هذا المنهج إلى فكرة فلسفية مجردة قد لا يكون لها أدنى صلة بعالم المبدع، وقد لا يكون لها وجود في الواقع إلا في ذهن هذا الناقد الفيلسوف، يقول د. الربيعي:
"مثل هذه القراءة الأدبية تفتح –في نظري- مجالات جديدة واسعة للتفكير في كثير من ظواهر الشعر العربي. لقد حفل الشعر الجاهلي –مثلاً- بوصف الرحلة، كما حفل الشعر العباسي بوصف مجالس اللهو والشرب. وقد نختصر الوقت والجهاد –مخطئين- في تفسير ذلك، فنقول: إن الشاعر الجاهلي ابن بيئته، وقد كان الجاهليون أصحاب رحلة، والشاعر العباسي ابن بيئته، وقد غرقت البيئة العباسية في اللهو والخمر. ونحن إذ نفعل ذلك نبسط الأمور إلى حد مخل، ونهبط بقدر الفن الشعري، فنجعله صدى حائلاً للحياة اليومية.
وينبغي علينا ألا نضن بجهد مكثف نبذله في تعمق ظاهرة "شعر الرحلة"، وظاهرة "شعر اللهو والخمر"، وسيفتح لنا هذا الجهد آفاقًا مترامية حقًا في القصيدة العربية، ومن المؤكد أننا سننتهي إلى أن الشاعر لم يكن بالسذاجة التي نتصورها، وأنه كان مشغولاً في شعر الرحلة ببناء معادل فني للحياة بصفتها الرحلة الأزلية، أو الرحلة النموذجية العليا، وأن الرحلة إلى الممدوح، أو إلى المعشوق أو غيرهما، ما هي إلا القناع الذي يخبئ إحساسه الفاجع بسفره الممعن المستمر إلى مصيره المجهول. وهنا تصبح الرحلة المحسوسة شاهدًا ودليلاً فحسب على الرحلة المعنوية، وتصبح ضرورة الوقوف عندها مرهونة بالقدر الذي يمكن القارئ من أن يدلف من الباب المناسب للرحلة "الحقيقية". وسيصبح السؤال المهم ليس هو "هل رحل الشاعر واقعيًا أو لم يرحل؟" وإنما هو "كيف استطاع الشاعر أن يشكل من كيان جزئي معادلاً فنيًا عامًا؟".
وعلى قدر نفاذ القارئ إلى العناصر الحقيقية للتشكيل الشعري، والسيطرة على نواحي التوازن "البنائي" فيه، وإدراك الخصائص التي تكسبه حياته الخاصة، يكون نجاحه في التوصل إلى إجابة مناسبة للسؤال الأخير.
وبالمثل إذا كنا سنتوقف لدى قصائد وصف اللهو والخمر بصفتها وثائق اجتماعية أو أخلاقية تشير إلى نمو ظواهر معينة، أو انحراف في سلوك معين، فإننا لا نعدو أن نكون قد ساوينا بين الفن والتقارير اليومية. ولكن اللهو والخمر حين يكتسبان في نظر الشاعر أهمية عامة تكفي لأن يتحولا إلى شعر، فإنهما يتحولان إلى قيمتين مستقلتين عن واقعهما الحرفي من الناحية المعنوية، وقد يصبح اللهو هو الرمز المعادل لتمرد الإنسان في وجه الحياة بغية تنشيط الإحساس بالعنصر المقابل للعنصر المأساوي المستشعر أبدًا فيها، كما قد تصبح الخمر رمزًا لملجأ النسيان الذي يلوذ به الإنسان من فداحة الإحساس بهذا الوجه المأساوي نفسه.
ونتساءل بعد ذلك: هل كانت هذه حقًا هي غاية أبي نواس من خمرياته؟ أم أننا نتقول عليه ما لم يقل؟.
وإذا كانت هذه هي غايته الحقيقية، فما هي الأدلة والبراهين على ذلك؟ والإجابة عن هذه الأسئلة تكشف عن مثالب أخر لهذا الاتجاه، وهي:
ثانيًا: المعنى في المنهج اللغوي يتلون بفلسفة الناقد وأفكاره، فالمعنى في الحقيقة في هذا المنهج ليس هو المعادل الفني لكلام المبدع، ولكن هو المعادل الفلسفي لفكر الناقد اللغوي.
ثالثًا: المعنى الذي ينتهي إليه الناقد التاريخي أو النفسي يستطيع أن يقدم الأدلة عليه من حقائق التاريخ، أو ما عرف عن نفسية المبدع، أما الناقد اللغوي، فكلامه رجم بالغيب لا يستطيع أن يقدم دليلاً عليه، بل إنه يرفض تقديم الأدلة، أو البحث عنها، ويرى ذلك مخالفًا لمنهجه، ويعده من رواسب المناهج السابقة التي ينبغي على أصحاب المنهج الحديث أن يتخلصوا منها.
رابعًا: وأخيرًا نقول: إن المنهج المسمى باللغوي قد أهدر قيمة التطبيق اللغوي، حيث اقتصر على الاهتمام بالكشف عن الدلالات المعجمية في إطارها التاريخي، مع ما لها من قيمة كبرى في الكشف عن القدرة الخلاقة لدى المبدع في تصوير تجربته وإشراكنا في تلك التجربة.
بقي أن نقول: إنه لا ينبغي أن يفهم من كلامنا السابق أننا نهون من قيمة هذا المنهج، أو أننا ضد إطلاق الفكر في البحث عن الأفكار والمعاني الكلية التي تعمق الشعور بالتجربة الإنسانية للمبدع، أيًّا كان زمانه ومكانه، فلسنا ضد شيء من ذلك، ولكننا ندعو إلى منهج متكامل يفيد من نتائج المناهج الأخرى، ويوظفها جميعًا لتفسير العمل الأدبي، والحكم عليه، والكشف عن مواطن القوة أو الضعف في هذا العمل.
خامسًا: ثمة محذور يلزمنا التنبيه عليه، وهو أن هذا المنهج لا يصلح أبدًا لتناول النصوص الدينية، وقد يقال إن النصوص الدينية ليست عرضة للنقد، ولكننا نقول: إن النقد في معناه الحديث هو قراءة العمل الأدبي، وتفسيره، والكشف عن أفكاره ومضامينه، وهذا كله لا غبار عليه في تناول النصوص الدينية، وهذا كله بالنسبة للمؤمن بتلك النصوص الذي يرى أنها لا تقبل النقض والطعن، أما بالنسبة للجاحد بها فإن باب نقد تلك النصوص يبقى مفتوحًا أمامه على مصراعيه، وهذا شيء لا يخيفنا، بل لعله يكون مدعاة لإيمان هؤلاء الناقدين أو الطاعنين بعظمة تلك النصوص التي نؤمن بها، ومن ثم فنقول: إن القارئ للنص الأدبي الديني لا غنى له عن الإطار التاريخي لهذه النصوص، لأنه يلزم عن ذلك الوقوع في تفسير تلك النصوص تفسيرًا خاطئًا على نحو ما وقع فيه أولئك الذين تخلوا عن ذلك الإطار في تناول تلك النصوص.

([1]) "عمود الشعر": مصطلح يمكن أن نقول: إنه مأخوذ من البيئة العربية البدوية، فعمود الخيمة هو الذي تقوم عليه الخيمة وترتفع، ولا يمكن أن يتصور لها من وجود بغير هذا العمود، وكذا عمود الشعر، فكأنه الحامل لبناء الشعر وخيمته، فإن فقد أو توجه إليه وهن انعكس ذلك على بنية الشعر كلها بما يضع منها. وهذا العمود الشعري يمكنك أن تقول عنه: إنه مأخوذ من مجموعة التقاليد والسنن التي سلكها شعراء العرب القدماء في الجاهلية وصدر الإسلام، = =والتزمت بها جماعتهم بحيث صار أمرًا من المسلمات بينهم لا يكاد يوجد من يخرج عنه، وهذا المصطلح أبان عنه خير إبانة المرزوقي المتوفي 421هـ، في مقدمة شرحه لحماسة أبي تمام، حيث قال: (فالواجب أن يتبين ما هو عمود الشعر المعروف عند العرب؛ ليتميز تليد الصنعة من الطريف، وقديم نظام القريض من الحديث؛ ولتعرف مواطن أقدام المختارين فيما اختاروه، ومراسم أقدام المزيفين على ما زيفوه، ويعلم أيضًا فرق ما بين المصنوع والمطبوع.
([2]) شرح ديوان الحماسة – القسم الأول (ص9).
([3]) السابق (ص11).
([4]) د. محمد مندور: النقد والنقاد المعاصرون، (ص233-236).
([5]) د.محمد حسن عبدالله: مقدمة في النقد الأدبي –دار البحوث العلمية- الكويت(ص56-57).
([6]) انظر: الأدب المقارن للدكتور محمد غنيمي هلال: (ص59)، وما بعدها.
([7])طبقات فحول الشعراء: (ج1/ 140).
([8])السابق (ص259).
([9])المثل السائر (ص112).
([10])الوساطة بين المتنبي وخصومه: (ص17-18).
([11])انظر: النقد الأدبي أصوله ومناهجه –(ص148)، وما بعدها، ومعالم على طريق النقد القديم (ص101).
([12])انظر: د. حسن طبل: مدخل إلى النقد الأدبي –مكتبة الزهراء (ص33-39).
([13])الصناعتين: (100).
([14])النقد العربي: أصوله ومناهجه (ص215) وما بعدها.
([15])النقد والنقاد المعاصرون (143-144).
([16])المسحت: الهالك، والمجلف: الذي بقيت منه بقية.
([17])الحاصب: الريح الشديدة، والرير: المخ الرقيق.
([18])مقذوفة: مرمية. الدخيس: لحم باطن الكف. النخض: اللحم. البازل: البعير الفتي. صريف القعو: أي أن للناقة صوت يشبه الصوت الصادر عن البكرة أو الخشبة المستديرة. المسد: الحبل. انظر البيتين في ديوان النابغة الذبياني – دار الكتب العلمية- (ص10).
([19])د. حسن طبل: مدخل إلى النقد الأدبي (ص56).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق