الجمعة، 8 مايو 2009

نموذج من بلاغة القرآن دراسات أسلوبية للدكتور هنداوي نموذج من الجزء الأول من السلسلة في سورة ق
المقصد العام والمقاصد الأساسية
نستطيع أن نحدد المقصد العام لهذه السورة من خلال القراءة الأولى لآياتها حيث تدور جميع هذه الآيات حول مقصد واحد هو:
إثبات البعث:
ويتكون هذا المقصد من عدد من المقاصد الفرعية التي تتلاحم فيما بينها في نسيج واحد للدلالة على هذا المقصد العظيم.
وذلك حيث تبدأ السورة بتقرير البعث والجزاء وتأكيده عن طريق أسلوب القسم في أول السورة، ثم تقرير تعجب الكافرين من نذارة النبي r لهم باليوم الآخر، وإجابتهم عن هذا التعجب إجابة مجملة، مع بيان حقيقة حالهم وما هم فيه من الضلال والاضطراب بسبب تكذيبهم بالحق مع وضوحه وبيانه لهم.
ثم تنتقل الآيات بعد ذلك للرد التفصيلي على حجج المشركين ومزاعمهم الباطلة بذكر الآيات الدالة على قدرة الله تعالى على البعث، ومن ثم تطوف بهم الآيات بالنظر في بناء السماء وزينتها وإحكام صنعتها، والنظر إلى الأرض كيف مدّها الله تعالى وأوسع أرجاءها، وألقى فيها الجبال مثبتات لها، وأنبت فيها من كل زوج بهيج.
وكيف أنزل من السماء ماءً عميم النفع والخير والبركة أنبت به الجنات والحدائق وسائر صنوف الحبوب والنباتات، وكيف أخرج به النخل باسقات لها طلع نضيد، ثم كيف أحيا به الأرض بعد موتها.
وفي ختام هذه الآيات يقرر الحق سبحانه أن البعث إحياء العباد بعد موتهم لا يختلف عن إحياء الأرض بعد موتها، وإخراجهم من الأرض بعد موتهم لا يختلف عن إخراج النبات في شيء.
ثم تنتقل الآيات بعد ذلك إلى ترهيب الكافر من التمادي في غيّه بتكذيب البعث وذلك ببيان حال المكذبين بالبعث من الأمم السابقة، وكيف حلّ بهم الوعيد والعذاب لما كذبوا ما جاءت به الرسل. كما تعمد إلى تخويفه من رقابة الله المطلع على وساوس نفسه، وتكذيبه بالحق الذي فطر الله تعالى النفوس عليه، كما تخوفه كذلك من رقابة الملائكة له وتلقيها لألفاظه.
كما ترهبه الآيات كذلك من سكرة الموت ومباغتته للمرء فلا مفر ولا محيد، كما تخوفه كذلك من أهوال البعث ومواقفه وتصور للمرء حاله وهو محضر في هذه العرصات ومعه سائق وشهيد، حيث يكشف عن عينيه غطاء الغفلة وحجاب الشهوات فيرى الأمور على حقيقتها، وتزيد السورة في عرض مشاهد هذا اليوم وبتصوير حال الكافر فيها مع قرينه الذي أضله واختصامه معه، وقرينه الذي يسوقه ويحضره بين يدي مولاه، وتصور له حاله وقد صدر فيه القضاء الإلهي الذي لا يرد }أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ{ ، وتصور له حال جهنم وقد امتلأت }وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ{، وتستطرد الآيات هنا بذكر حال المتقين وجزائهم ومآلهم، وذلك من باب الترغيب في حسن موعود الله تعالى، وفتح باب الأمل للتوبة والإنابة والرجوع عن اللجاجة في الباطل.
وتكمل الآيات ما بدأته من الترهيب من التكذيب بالبعث ببيان إهلاك المكذبين من قبل وحث العباد على أخذ العظة والذكرى من ذلك.
ثم تنتقل بعد ذلك إلى عرض بعض شبه اليهود والمكذبين بالبعث حيث تعرض شبهة لليهود في ادعائهم أن الله قد خلق السماوات والأرض في ستة أيام فأصابه التعب والإعياء فاستراح في اليوم السابع، وقد عرضت الآيات لهذه الشبهة ودحضتها لأنها قد تكون شبهة يتعلق بها منكرو البعث، ثم هوّنت السورة على النبي r ما يلاقي من التكذيب وما يسمع من هذه اللجاجة ودعته إلى الصبر والتثبت والاستعانة على ذلك بذكر الله وتسبيحه، والتمهل بالكافرين ليوم لا ريب فيه.
ومن ثم تختم السورة بتصوير ذلك اليوم، وتوعد الكافرين بهذا المصير المحتوم، ويأتي هذا المقصد متداخلا مع المقصد السابق فتختم السورة بتصبير النبيr وتثبيته وتسليته بأن الله تعالى يعلم ما يقولون، وأن النبي r ما عليه إلا البلاغ لمن يخاف وعيد الله تعالى.
ومن ثم تتلاحم آيات السورة الكريمة للدلالة على المقصد العام وهو (إثبات البعث والإيمان باليوم الآخر والاستعداد له) وذلك من خلال هذه المقاصد السابقة.
ويمكننا أن نوجز هنا مقاصد السورة الكريمة في النقاط التالية:
1-إثبات البعث وتكذيب الكافرين به.
2-دلائل قدرة الله تعالى على بعث الخلائق.
3-التدليل على البعث بوسائل الترهيب والترغيب والأدلة العقلية المنطقية.
4-تثبيت النبي r وتسليته عما يلاقي من تكذيب الكافرين ولجاجتهم.






"ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) k
المقصد الأول
(إثبات البعث وتكذيب الكافرين به)
في هذه الافتتاحية التي تأسر القلوب وتستولي على الأسماع والعقول تقدم السورة لموضوعها الأساسي الذي تدور حوله، وهو إثبات البعث.
ومن ثم فهذه المقدمة قد تضمنت عدة أمور هي:
1-جذب الأسماع للانتباه والتأمل.
2-تقرير أمر البعث وتوكيده.
3-تقرير تعجب الكافرين من نذارة الرسول r لهم بالبعث واستبعادهم له.
4-الرد المجمل على استبعاد الكافرين للبعث.
5-كشف حقيقة حال الكافرين وبيان سبب كفرهم واضطرابهم في أمر البعث.
وتتضافر الوسائل التعبيرية المختلفة على تقرير هذه الأمور وبيانها بأردع بيان، بحيث تتحقق المطابقة بينها وبين مقتضيات الأحوال من خلال أنظمة اللغة ومستوياتها المتعددة، وفيما يلي بيان ذلك.
أولاً: تحقق المطابقة على المستوى المعجمي:
ق: اختلف المفسرون في نظرتهم إلى الحروف التي تفتتح بها السور فمنهم من يكل علمها إلى الله تعالى، ويجعلها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، فيقول في تفسير (ق) أو (ص) أو (الم)...إلخ (الله أعلم بمراده)([1]).
ومنهم من يرى أنها أحرف جيء بها للاستفتاح والتنبيه وإثارة الذهن والانتباه([2]).
ومنهم من يرى أن هذه الأحرف أنما جيء بها للتنبيه على أن القرآن من جنس الأحرف التي يتكلم بها العرب، ومع ذلك فهم عاجزون عن الإتيان بسور من مثله.
ويرشح أصحاب هذا الرأي لقولهم بأن هذه الأحرف قد اطرد بعدها ذكر القرآن الكريم كما في هذه السورة: }ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ{ أو }ص‌ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ{ [ص:1]، أو }الـم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ{ [البقرة:1،2]، أو }الـم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ{ [آل عمران:1-3]، أو يأتي موصوفًا بأنه ذكر أو تنزيل أو غير ذلك من أوصاف القرآن وأسمائه مثل: }الـم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ [السجدة:1،2]، ومثل: }كـهيعص‌ (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا{ [مريم:1،2] إلخ.
كما يدلل أصحاب هذا الرأي على ذلك بأن الحروف المذكورة في أوائل السور قد اشتملت على جميع صفات الحروف من الهمس والجهر، والتفخيم والترقيق، وغير ذلك، فكأنها أمثلة مما يتكلمون به، تدلل على أن القرآن من جنس هذه الأحرف وتقرر عجزهم عن مشابهته ومناظرته([3]).
ومنهم من يرى أن هذه الأحرف أسماء للسور، كما في الحديث: "كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم. السجدة"([4]).
ومن المفسرين من يرى أن هذه الأحرف إنما هي إشارات ورموز لمعان تدل عليها بطريق الإيجاز والاختصار كقول الشاعر:
قلنا قفي لنا فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
تعني: وقفت.
وقال الآخر:
ما للظليم عال كيف لايا ينقد عنه جلده إذا يا
فقال ابن جرير: كأنه أراد أن يقول إذا يفعل كذا وكذا فاكتفى بالياء من يفعل. وقال الآخر:
بالخير خيرات وإن شرًّا فا ولا أريد الشر إلا أن تا
يقول: وإن شرًّا فسْرٌ إلا أن تشاء، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما، ولكن هذا ظاهر من سياق. الكلام والله أعلم([5]).
ولا نريد أن نخوض هنا في سرد حجج كل فريق ودحضه للآراء الأخرى لأننا نرى أن هذه الأقوال كلها واقعة في دائرة الاجتهاد المأذون فيه، مع عدم وجود أدلة كافية للقطع بأحد هذه الآراء دون بقيتها، فهي جميعًا واقعة في دائرة الاحتمال.
وبدلا من محاولة ترجيح أحد هذه الآراء على غيرها فإننا سنقوم بمحاولة تطبيق هذه الآراء على هذه الحرف (ق) الذي افتتحت به هذه السورة الكريمة.
فنحن نرى أن البدء بهذا الحرف المبهم يدير الذهن في كل ما يتعلق به، وكل ما يمكن أن يكون إشارة إليه لاسيما في الأمر الذي يحتدم الصراع حوله، والموضوع الذي هو محل الخطاب بين المخاطَب والمخاطِب وهو أمر القيامة، وتنزل القرآن بإثبات البعث والمعاد الذي يكذبون به.
فيحتمل الذهن أن يكون ذلك إشارة إلى القيامة، ويحتمل أن يكون إشارة إلى القرآن، لاسيما وقد بدئت السورة بذكره وختمت بذكره، قال تعالى في بداية السورة: }ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ(1){ وقال في آخرها: }فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ(45){.
كما يحتمل أن يكون إشارة إلى القفو والتتبع، فالله تعالى قافٍ أثرهم، يتتبعهم ليحشرهم ليوم لا ريب فيه([6]) أو هو أمر بقفوِ القرآن أي: اتباعه أو هو أمر بالوقوف عند ما جاء فيه والعلم به([7]).
كما يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى القول والمجادلة في أمر البعث والقيل والقال فيه، خاصة أن السورة قد اشتملت على كثير من الحوارات:
}فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ{ [ق:2]
}وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ{ [ق:23]
}قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ{ [ق:27]
}قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ{ [ق:28]
}مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ{ [ق:29]
}يَوْمَ نقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ{ [ق:30]
}نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ{ [ق:45]
ومما يرشح لذلك أن السورة تبدأ بحكاية قول الكافرين:
}فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ{ [ق:2]
وتختم بحكاية قولهم كذلك:
}نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ{ [ق:45]
كما يحتمل الإشارة إلى أن القيامة (حق)، والقرآن الذي أخبر بذلك (حق)، والرسول الذي جاء بذلك (حق)، ومن ثم تكرر لفظ الحق في هذه السورة، كما في }بَلْ كذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ{ [ق:5]
}وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ{[ق:19]
}يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ{ [ق:42]
ولا نريد هنا أن نثبت أو ننفي إشارة القرآن بهذا الحرف إلى شيء من هذه المعاني، بقدر ما نريد أن نقول: إن من إعجاز هذا الحرف هو أنه يثير الذهن ويحركه لاحتمال هذه المعاني جميعًا وهي كلها معان صحيحة ومقصودة ومتآزرة مع معاني السورة ومقاصدها وليست غريبة عنها.
كما قد يكون المراد منه هو التنبيه وإثارة الذهن تنويهًا بعظم ما يتلى وأهمية الأمر الذي هو محل إعراض وتكذيب من الكافرين، أو محل غفلة من المؤمنين، فالاستعداد للموت واليومِ الآخرِ الناسُ جميعًا في غفلة عنه، متشاغلين بحياتهم الدنيا، وإن تفاوتت درجة الغفلة بينهم إلا أنها تعمهم جميعًا كافرهم ومؤمنهم.
كما قد يكون المراد بهذا الحرف هو إثبات التحدي للكافرين، من جهة أنه حرف من جنس ما يتكلمون به، وقد عجزوا عن الإتيان بمثله، ومع ذلك يكذبون بمجيئه من عند الله، ويرشح لذلك ذكر القرآن المجيد بعده.
كذلك فإن هذا الحرف اسم لهذه السورة، وهذا يتفق مع قول من يرى أن هذه الأحرف أسماء للسور التي بدأت بها([8]). وبعد ذلك كله نقول: كما قال بعض المفسرين: الله أعلم بمراده أيُّ ذلك هو المراد، وقد يكون ذلك كله مرادا ويكون ذلك من إعجاز القرآن في دلالة حروفه وكلماته على معان كثيرة كلها صحيحة متفقة مع سياقها ومقامها.
ولعل في هذا توفيقًا وجمعًا بين هذه الأقوال المتعددة في الحروف المفتتحة بها السور.
}وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ{: "المجيد: ذو المجد والشرف على غيره من الكتب"([9]) "والمجد: الكرم والشرف، والمجيد فعيل منه للمبالغة، وقيل: هو الكريم المفضال. وفعيل فيه أبلغ من فاعل فكأنه جمع معنى الجليل والوهاب والكريم. والمجيد: الرفيع العالي"([10])، و"المجد: السعة في الكرم والجلال"([11])، و"المجد ويقال المجادة: الشرف الكامل وكرم النوع"([12]).
وإذا كانت الدلالة المعجمية لمادة (مجد) تدور حول التناهي في الشرف والكرم والجلال؛ فإن هذا يأتي متناسبًا تمام التناسب مع هذا القسم بالقرآن، لأن القسم يوحي بعظمة المقسم به ويوحي بمجادته وقداسته فناسب وصف القرآن المقسم به بالمجيد. وهذا الوصف دلّ على مجد القرآن وشرفه وفضله على ما سواه من الكلام وما سواه من الكتب، فليس في كلام الناس، ولا كلام الرسل، ولا ما أنزل الله تعالى من الكتب السابقة ما يفوق القرآن في فصاحته وبلاغته، وإعجاز نظمه، ودقة معانيه، وإحكام أحكامه وآياته، فقد أنزله الله تعالى }مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ{ [المائدة:48].
ولذلك ناسب القسم بالقرآن ووصفه بالمجيد دون (الكتاب) لكون فضله وشرفه في كونه مقروءًا، متعبدًا بتلاوته، يُتحدى بنظمه ومعانيه المحكمة المفصلة والمبينة لكل شيء }وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ{[النحل:89].
فالكتب كلها منزلة من عند الله، ولكنه يزيد عليها شرفًا ومجدًا في أنه قد وقع التحدي بنظمه، وذلك لا يكون إلا بقراءته وسماعه التي يتبين بها فصاحته وبلاغته.
وقوله تعالى: }بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ{[ق:2-3].
بل: تفيد الإضراب عن كلام سابق. والكلام السابق على هذا الإضراب هو القسم المحذوف الجواب، والجواب مقدر بأن القرآن حق، أو الرسول r حق([13])، أو ما جاء به الرسول r من النذارة بالبعث حق([14])، وهو الأرجح، ويدل عليه ما بعده من ذكر البعث.
وهذا هو ما حدث الإضراب عنه، فكأن الكفار قد أعرضوا عن موجب ذلك القسم وهو الإيمان بما جاء به الرسول r من الإنذار بالبعث وأتوا بنقيضه فعجبوا أن جاءهم منذر منهم بذلك، }فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ(2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ{.
عجبوا: "أي حصل لهم العَجَب بفتح الجيم، وهو الأمر غير المألوف للشخص"([15]) و"(العجب): روعة تأخذ الإنسان عند استعظام الشيء"([16])
ومن ثم جاء التعبير بالعجب مطابقًا لبيان استعظامهم لهذا الأمر واستنكارهم له، وادعائهم أنه أمر غير مألوف ولا معروف.
وعجبهم إنما كان من كون الرسول r بشرًا مثلهم، ومن كونه ينذرهم بالبعث والنشور([17]).
وفي الحقيقة إنهم جاحدون معاندون للفطرة السليمة التي تقر بما جاءت به الرسل.
وقد بين القرآن عجبهم من الأمر الأول في غير ما موضع مثل قوله تعالى: }وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا{[الإسراء:94] وقوله تعالى هنا: }بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ{ "وعبر عن الرسول r بوصف "منذر" وهو المخبر بشرّ سيكون، للإيماء إلى أن عجبهم كان ناشئا عن صفتين في الرسول r إحداهما: أنه مخبر بعذاب يكون بعد الموت، أي مخبر بما لا يصدقون بوقوعه، وإنما أنذرهم الرسول r بعذاب الآخرة بعد البعث كما قال تعالى: }إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ{ [سبأ:46].
والثانية: كونه من نوع البشر"([18]).
وبين هنا عجبهم من الأمر الثاني وهو النذارة بالبعث حيث قالوا: }هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ(2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ{.
ومن ثم أتوا بلفظ (إذا) الدالة على تحقق الوقوع، للدلالة على تحقق الموت وثبوته. ووصفوا رجعهم بعد موتهم واستحالتهم ترابًا بكونه بعيدًا، أي مستبعدًا في العقول غير متصور، وهذا إنما تحيله العقول بالنسبة لمقدور البشر لا بالنظر إلى مقدور الخالق المقتدر.
ولما كان قولهم هذا راجعًا إلى الكفر والعناد والتكذيب لذا وضع المظهر موضع المضمر ليسجل الكفر عليهم بقوله: }فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ{.
وقوله تعالى: }قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ{.
عبر بـ(قد) لإفادة تحقق علمه سبحانه.
وعبر بالنقص دون الإعدام أو الأكل أو الأخذ؛ ليفيد أن الأرض إنما تأكل من أجسادهم شيئًا فشيئًا وأنها لا تفنيهم تمامًا؛ لأنه يبقى من الإنسان جزء صغير يسمى عجب الذنب يحييه الله تعالى منه يوم القيامة.
قال ابن عاشور: "وعبر بـ"تنقص الأرض" دون التعبير بالإعدام لأن للأجساد درجات من الاضمحلال تدخل تحت حقيقة النقص فقد يفنى بعض أجزاء الجسد ويبقى بعضه، وقد يأتي الفناء على جميع أجزائه، على أنه إذا صح أن عَجْب الذنب لا يفنى كان فناء الأجساد نقصًا لا انعدامًا"([19]).
"وأَنْقَصَهُ لغة، وانتقصه وتنقَّصه: أخذ منه قليلاً قليلاً"([20]).
ووصف الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي تسجل فيه مقادير كل شيء بأنه حفيظ، مناسب لما ذكر من نقص الأرض من أجسادهم فالحفظ في مقابل النقص الذي هو في معنى الضياع([21])، كما قال تعالى: }وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ{[السجدة:10]
}قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ{
"التعبير يجسم حركة الأرض ويحييها، وهي تذيب أجسامهم المغيبة فيها، وتأكلها رويدًا رويدًا، ويصور أجسادهم وهي تتآكل باطراد وتبلى، ليقول: إن الله يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم، وهو مسجل في كتاب حفيظ، فهم لا يذهبون ضياعًا إذا ماتوا وكانوا ترابا. أما إعادة الحياة إلى هذا التراب فقد حثت من قبل، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي([22])"
ومن ثم حسنت هذه المطابقة لمطابقتها للمعنى، فبينت أن الله تعالى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من أجسادهم مهما غابت في غياهب الأرض.
وناسب التعبير بالكتاب ليدل على أن كل شيء من ذلك مكتوب ومسجل ومحفوظ في هذا اللوح المحفوظ.
ثم زاد في الدلالة على الحفظ في وصف هذا الكتاب بقوله: }وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ{[ق:4] فوصفه بالعندية المنسوبة إليه سبحانه كناية عن كمال الحفظ، لأنه يكون ثمة في حفظ الحفيظ سبحانه.
}بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ{
}بَلْ{: إضراب عن التمادي في جوابهم لأنهم ليسوا أهلا للخطاب، وليسوا من يطلب دليلا للاهتداء، وإنما حقيقة أمرهم هو التكذيب بالحق عنادًا واستكبارًا رغم وضوح أدلته، فمرجع أمرهم إلى مجرد التكذيب والجحود.
}كَذَّبُوا بِالْحَقِّ{: عبر بالحق عن البعث المخبر به لتأكيد كونه حقًّا لا مرية فيه، ولإظهار المفارقة بين مجيء الحق الواضح إليهم وتكذيبهم به رغم وضوحه وبيانه.
}لَمَّا جَاءهُمْ{: (لما) "حرف توقيت فهي دالة ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى: }فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ{ [البقرة:17]، وقوله: }فَلَمَّا جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ{ [البقرة:89] وقد مضيا في سورة البقرة. ومعنى }جَاءهُمْ{: بلغهم وأعلموا به.
والمعنى: أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله، وهو أول حق جاء به القرآن، ولذلك عقب بقوله: }أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا{ إلى قوله: }وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا{.
فالتكذيب بما جاء به القرآن يعم التكذيب بالبعث وغيره"([23]).
}فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ{: عبر بـ(في) ليدل على كمال اضطرابهم، فكأنهم منغمسون في الاضطراب، فهو لازم لهم ويحتويهم احتواء الظرف لما فيه.
ومن ثم فاستعمال (في) هنا استعارة تبعية"([24]).
(مريج): المريج معناه المختلط: قال ابن زيد، وقال ابن عباس: المريج: المنكر، وقال مجاهد: المتلبس، المريج: المضطرب([25]). وفي اللسان، مَرِجَ: قَلِقَ، مرج الأمر: التبس واختلط. وفي التنزيل "فهم في أمر مريج" يقول: في ضلال.
وقال أبو إسحاق: في أمر مختلف ملتبس عليهم، مَرَجَ أَمرَه: ضيَّعه. المرج: الفتنة المشكلة، المرج: الفساد. وفي الحديث: "كيف أنتم إذا مرج الدين" أي: فسد وقلقت أسبابه([26]).
وعبر بلفظ مريج([27]) ليدل على اضطرابهم وتخبطهم في الأمر إزاء ما جاءهم به النبي r من النذارة بالبعث، فتارة يصفونه بالسحر أو الشعر وتارة يصفونه بالكهانة، وتارة يصفونه بالجنون، وتارة يصفونه بأنه أساطير الأولين...إلخ([28]).
ثانيًا: تحقق المطابقة على المستوى الصوتي:
تشارك الظواهر الصوتية المختلفة الدلالة المعجمية في الإيحاء بمعانيها فتأتي مؤازرة لها، ومتسقة مع المعاني السياقية والمقامية لمقاصد الآيات ولنتأصل على سبيل المثال:
}ق{: الحروف التي يبدأ بها في مفتتح السور تشتمل على مدّ يسمى بالمد الحرفي المثقل، فيمد الألف في القاف ست حركات، وهذا المد كاف لإثارة الذهن، وجذب الانتباه، والاستحواذ على الأسماع لسماع ما يتلى.
كذلك فإن حرف القاف من الحروف المفخمة التي تملأ الفم خاصة وأنه يخرج من أقصى الحلق، وهذا التفخيم والامتلاء المصاحب لنطق الحرف يتناسب تمام المناسبة مع جو السورة وهول الحديث عن القيامة وأهوالها ومشاهدها.
كلمة (مَرِيجٍ) تصاحبها القلقلة في (الجيم) عند الوقوف عليها مع ما فيها من الجهر والشدّة، لتتآزر ظاهرة القلقلة فيها وكذلك في أغلب آيات السورة مع اضطراب هؤلاء الكافرين في اعتقاداتهم وتخبطهم فيها إزاء ما أنزل الله من الحق.
كلمة (حَفيظ) وفي المقابل تخلو كلمة حفيظ من دواعي القلقلة لأن حرف الظاء ليس من حروف القلقلة، لتنتهي بثبات هذا الحرف وعدم قلقلته أو اضطرابه مما يتناسب مع معنى الحفظ الذي يُطْلَبُ فيه الثبات والاستقرار.


ثالثًا: تحقق المطابقة على المستوى الصرفي:
}الْمَجِيدُ{: وصف القرآن بالمجيد بصيغة (فعيل) الدالة على المبالغة للدلالة على كمال مجده و"ذلك بأنه يفوق أفضل ما أبلغه الله للناس من أنواع الكلام الدال على مراد الله تعالى"([29]).
أو فعيل فيه بمعنى مفعل، كبديع بمعنى مبدع، لكن في مجيء فعيل وصفًا من الإفعال كلام، وأكثر أهل اللغة لم يثبته([30]).
}مُنْذِرٌ{: التعبير باسم الفاعل دون (فعيل) لأنها دونها في الدلالة على الفعل.
لأن المقصود أنهم قد عجبوا بمجرد بدء الرسول في إنذارهم، فأبدوا التعجب والتكذيب لأول وهلة دون تأمل أو تدبر.
}فَقَالَ الْكَافِرُونَ{: التعبير بصيغة الفاعل بدل التعبير بالفعل }فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا{ مثلا للدلالة على ثبوت الصفة لهم واستحقاقهم لها وكونها أصبحت سمة لهم.
}عَجِيبٌ{: التعبير بصيغة (فعيل) دلّ على اعتقادهم ثبوت العجب لهذا الأمر وكونه لازمًا له لا ينفك عنه.
}مِتْنَا وَكُنَّا{:جاء التعبير بالماضي للدلالة على تحقق الموت والصيرورة إلى التراب.
}رَجْعٌ{: أتوا بالاسم من الفعل اللازم (رَجْعٌ) دون ما سواه من المصادر كالإرجاع الذي يدل على وجود فاعل مرجع لعدم اعتقادهم به، وأتى بـ(رجع) دون (رجوع) لأن المقصود نفي أدنى (رجع) أو (بعث) يمكن تصوره فأتى بالمصدر الأخف للدلالة على أقل ذلك.
}بَعِيدٌ{: عبر بالصفة المشبهة دون الفعل (بَعُد) للدلالة على ثبوت بعده، والمبالغة في استبعاده.
}تَنْقُصُ{: عبر بالمضارع للدلالة على أن نقص الأرض من أجسادهم مستمر متكرر يحدث شيئًا فشيئًا.
}حَفِيظٌ{: فعيل هنا إما بمعنى فاعل أي حافظ لما سجل فيه من الأشياء وأعدادها وآجالها وغير ذلك.
وإما بمعنى مفعول: أي محفوظ مما قد يعتري الكتب من المحو والتغيير أو السرقة ونحوه، وإذا كان سياق الآيات يدل على أنهم يستبعدون إحصاء الله تعالى لذرات أجسادهم بعد أن تغيب في الأرض، وذلك كما ذكر الله تعالى عنهم: }وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ { [السجدة:10] أي أئذا غبنا فيها بأن صرنا ترابًا مختلطًا بترابها، فكأن مثار الشك أو الجدل لدى هؤلاء الكافرين هو في كون الكتاب حافظًا لذرات أجسادهم؛ لا في كونه محفوظًا؛ ولكن آثر التعبير القرآني المعجز صيغة (فعيل) لكي يثبت كلا المعنيين: كونه حافظًا، وكونه محفوظًا؛ وذلك لأنه إذا كان المراد هو إثبات كونه حافظًا؛ فإن مما يتم به المعنى أن يكون الكتاب محفوظًا كذلك من التغيير والتبديل، إذ لا يتم الحفظ إلا بذلك.
رابعًا: تحقق المطابقة على المستوى النحوي:
}وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ{: قسم بالقرآن، والقسم به كناية عن التنويه بشأنه؛ لأن القسم لا يكون إلا بعظيم عند المقسم فكان التعظيم من لوازم القسم.
وجواب القسم محذوف لتذهب نفس السامع في تقديره كل طريق ممكن في المقام فيدل عليه ابتداء السورة بحرف "ق" المشعر بالنداء على عجزهم عن معارضة القرآن بعد تحدّيهم بذلك، أو يدل عليه الإضراب في قوله: }بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ{.
والتقدير: والقرآن المجيد إنك لرسول الله بالحق، كما صرح به في قوله }يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{ [يس:1-4]. أو يقدر الجواب: إنه لتنزيل من رب العالمين، أو نحو ذلك كما صرح به في نحو: }حـم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{ [الزخرف:1-3] ونحو ذلك والإضراب الانتقالي يقتضي كلامًا منتقلا منه والقسم بدون جواب لا يعتبر كلامًا تامًّا فتعين أن يقدِّر السامع جوابًا تتم به الفائدة يدل عليه الكلام.
وهذا من إيجاز الحذف وحسنه أن الانتقال مشعر بأهمية المنتقل إليه، أي عَدَّ عمَّا تريدُ تقديرَه من جوابٍ وانتقِلْ إلى بيان سبب إنكارهم الذي حدا بنا إلى القسم كقول القائل: دع ذا، وقول امرئ القيس:
فدع ذا وسلَّ الهم عنك بِحَسْرَةٍ ذَمُولٍ إذا صامَ النهارُ وهَجَّرَا
وقول الأعشى:
فدع ذا ولكن رب أرض مُتيهة قطعتُ بِحُرْ جُوْجٍ إذا الليل أظلما([31]).
قلت: كذا قدر بعضهم جواب القسم بأنه قسم على أن الرسول حق، والأولى تقديره بما دارت عليه مقاصد السورة من أولها إلى آخرها وهو أمر البعث والتكذيب به، وإثباته وبيان أهواله ومواقفه، وحال المكذبين به وغير ذلك مما فصلته السورة وسبق بيانه([32]).
}بَلْ عَجِبُوا{:أسلوب خبري والتركيب مُصَدَّرٌ بحرف الإضراب بما يشعر بمجيء هذا الخبر للإنكار لعجبهم الشديد من البعث.
}أَنْ جَاءهُمْ{: مجرور بـ(من) المحذوفة، وحسن حذف (من) التي تدل على السبب والعلة، فجاءت الآية بإطلاق العجب، كأن عجبهم حاصل بمجرد مجيء النذير بلا سبب ولا علة قد وقفوا عليها بما يشعر أنهم قد بادروا إلى التعجب والتكذيب بلا تأمل ولا روية.
}مُنْذِرٌ مِنْهُمْ{: منهم صفة لمنذر، وأدخلت الصفة هنا بـ(منهم) على (منذر) لأن لها مدخلا في تعجبهم، إذ إن عجبهم كان من أمرين هما: النذارة بالبعث، وكون النذير بشرًا منهم.
والإشارة بقولهم: }هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ { أفادت أن المشار إليه بالعجب في زعمهم مما يستدعي العجب والإنكار والإشارة إليه بالتعجب، وإشارتهم هنا هي إلى ما هو جار في مقام مقالتهم تلك من دعاء النبي r إياهم للإيمان بالرجع، أي البعث وهو الذي بينته جملة }أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا{([33]) إلخ.
وفي البحر المحيط: "والإشارة بقولهم: }هذا شيء عجيب{ الظاهر: أنها إلى مجيء منذر من البشر. وقيل: إلى ما تضمنه الإنذار. وهو الإخبار بالبعث، وقال الزمخشري: وهذا إشارة إلى المرجح. وفيه بعد([34])"
وإفادة الإشارة هنا للتعجب هي كما في قول ابن الراوندي:
كم عاقلٍ عاقلٍ أعيتْ مذاهبِهُ وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقا
هذا الذي تركَ الأوهامَ حائرةً وصَيَّرَ العالِمَ النَّحْرِيرَ زنديقا
ولذا أجابه الطيبـي –رحمه الله بقوله:
كم من أديبٍ فَهْمٍ قَلْبُهُ مُستكمل العقل مقلَّ عديمِ
ومن جهول مكثر ماله "ذلك تقديرُ العزيزِ العليمِ"([35])
}أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ{ الاستفهام دال على الإنكار وبيان علة تعجبهم، فعبروا عن تعجبهم وإنكارهم بصنوف من الأدوات كالإشارة والاستفهام واستعمال اللفظ المخصوص بالدلالة عليه، والمبالغة بما يدل على تحقق فنائهم...إلخ. والمستفهم عنه في قولهم: }أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ{ محذوف وتقديره: (أنرجع؟) وحذف المستفهم عنه للدلالة على شدة استبعادهم له حتى كأنهم لفرط استبعادهم له لا تسيغ ألسنتهم النطق به.
}ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ{ دلالة الإشارة هنا أيضًا لإفادة التعجيب والاستنكار بنحو ما بينا في قولهم: }هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ{ وقول ابن الراوندي: هذا الذي ترك الأوهام حائرة
}قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ{ أسلوب خبري مُصدَّر بقد لإفادة تحقيق العلم وثبوته ثبوتًا تامًا. وفي ذلك رد لقولهم: }ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ{ فإن الشبهة قد حصلت لهم من ظنهم أن الله يمكن أن يغيب عنه ما تنقصه الأرض من أجسادهم أو يخفى عليه بعضه فكيف يقدر على جمعه وإعادته، فأبطل أصل شبهاتهم في ذلك.
"وفصلت الجملة بدون عطف لأنها ابتداء كلام لرد كلامهم، وهذا هو الأليق بنظم الكلام، وقيل: هي جواب القسم"([36]).
}وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ{ أسلوب خبري تقدم فيه الخبر على المبتدأ وجوبًا، فأفاد أهمية المقدم والتفات السامع إليه وهو (عندية الله تعالى) لما فيها من الدلالة على تمام الحفظ.
فدل على الحفظ بأمور:
الأول: كونه عنده، وذلك كاف في الحفظ.
الثاني: كونه في كتاب، وهو أوثق لإحصائه.
والثالث: كونه حافظًا لما فيه، وهو ما دلت عليه (حفيظ) بمعنى (حافظ).
والرابع: كونه محفوظًا من التغيير والتبديل، وهو ما دلت عليه (حفيظ) بمعنى (محفوظ) وهو مشعر بوجود حفظة يحفظونه من الملائكة جريًا على سنة الله في الحفظ، وإن كان محفوظًا بحفظ الله تعالى بغير سبب ولا واسطة.
([1]) انظر على سبيل المثال تفسير الجلالين في هذا الموضع.
([2]) انظر على سبيل المثال تفسير الزمخشري (1/138)، وابن كثير في تفسير (الم. البقرة) (1/38،39) حيث نقلا هذا القول عن بعض المفسرين.
([3]) انظر في تفصيل هذا المذهب تفسير الكشاف للزمخشري (1/138-139) ط مكتبة العبيكان.
([4]) انظر تفسير ابن كثير (1/36) في تفسير (الم) [البقرة :1].
([5]) انظر تفسير ابن كثير ص(1/38)- المكتبة التوفيقية.
([6]) قلت: هذا اجتهاد مني وهو قريب مما قاله الألوسي في هذا الموضع.
([7]) انظر الألوسى- روح المعاني (26/171).
([8]) وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم انظر تفسير ابن كثير (1/37).
([9]) الكشاف (5/591) ط العبيكان.
([10]) اللسان: مجد.
([11]) الراغب: المفردات (مجد) ص(463) ط دار المعرفة.
([12]) الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير (26/276).
([13]) انظر التحرير والتنوير (26/277).
([14]) الدر المصون (6/174).
([15]) انظر التحرير والتنوير (26/278).
([16]) الوسيط: مادة عجب. "والعُجْبُ، والعَجَبُ: إنكاء ما يرد عليك لقلة اعتياده، قال ابن الأعرابي: العَجَب النظر إلى الشيء غير مألوف ولا معتاد، والتَّعَجُّبُ: أن ترى الشيء يعجبك تظن أنك لم تر مثله، والعجيب: الأمر تعجب منه". [وانظر اللسان مادة: عجب].
([17]) انظر تفسير البحر المحيط (8/120).
([18]) انظر التحرير والتنوير (25-26/279)- الدار التوفيقية للنشر.
([19]) انظر التحرير والتنوير (25-26/283).
([20]) انظر لسان العرب مادة: نقص.
([21])الحفظ: نقيض النسيان، وهو التعاهد وقلة الغفلة. والحافظ والحفيظ: الموكل بالشيء يحفظه. الحفظة: الذين يحصون الأعمال، ويكتبونها على بني آدم من الملائكة، وحفظ المال والسًّرًّ حفْظًا: رعاه. والتحفظ: قلة الغفلة في الأمور والكلام والتيقظ من السقطة، والمحافظة: المواظبة على الأمر. والمحافظة: المراقبة. والمحافظة والحِفَاظُ: الذَّبُّ عن المحارم. والحافظ: الطريق البيَّنُ المستقيم الذي لا ينقطع". [اللسان: حفظ].
([22]) في ظلال القرآن (6/3358).
([23]) انظر التحرير والتنوير (25-26/284).
([24]) التحرير والتنوير (25-26/284).
([25]) انظر المحرر الوجيز (5/156).
([26]) انظر لسان العرب مادة: مرج.
([27]) يقال مرج الخاتم في الإصبع إذا تحرك واضطرب. انظر الكشاف للزمخشري (4/ ).
([28]) تفسير النسفي (3/4) صـ 176. "قال صاحب الظلال: يكشف عن حقيقة حالهم، التي تنبعث من تلك الاعتراضات الواهية، ذلك أنهم تركوا الحق الثابت، فمادت الأرض من تحتهم، ولم يعودوا يستقرون على شيء أبدًا }بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج{ وإنه لتعبير فريد مصدر مشخص لحال من يفارقون الحق الثابت، فلا يقر لهم من بعده قرار إن الحق هو النقطة الثابتة التي يقف عليها من يؤمن بالحق فلا تتزعزع قدماه، ولا تضطرب خطاه؛ لأن الأرض ثابتة تحت قدميه لا تتزلزل ولا تخسف ولا تغوص. وكل ما حوله –عدا الحق الثابت- مضطرب مائج مزعزع مريج، لا ثبات له ولا استقرار، ولا صلابة له ولا احتما، فمن تجاوز نقطة الحق الثابتة زلت قدماه في ذلك المضطرب المريج وفقد الثبات والاستقرار، والطمأنينة والقرار، فهو أبدًا في أمر مريج لا يستقر على حال. ومن يفارق الحق تتقاذفه الأهواء وتتناوحه الهواجس، وتتخاطفه الهواتف، وتمزقه الحيرة وتقلقه الشكوك، ويضطرب سعيه هنا وهناك، وتتأرجح مواقفه إلى اليمين وإلى الشمال، وهو لا يلوذ من حيرته بركن ركين ولا بملجأ أمين، فهو في أمر مريج. إنه تعبير عجيب، يجسم خلجات القلوب، وكأنها حركة تتبعها العيون([28])".[في ظلال القرآن (6/3358،3359).
([29]) التحرير والتنوير (25-26/277).
([30]) الألوسي (26/171).
([31]) التحرير والتنوير (25-26/277-278).
([32]) وممن ذهب إلى ذلك من المفسرين: الزجاج والمبرد والأخفش انظر المحرر الوجيز (5/155)، والدر المصون (6/147). وفي البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (8/120) والجواب محذوف يدل عليه ما بعده وتقديره: إنك جئتهم منذرًا بالبعث.
([33]) انظر التحرير والتنوير (25-26/280).
([34]) البحر المحيط (8/120)، وانظر الكشاف (4/19).
([35]) التبيان في المعاني والبيان للطيبـي- تحقيق د/عبدالحميد هنداوي- المكتبة التجارية- مكة المكرمة (1/158).
([36]) انظر التحرير والتنوير (25-26/281).

هناك تعليق واحد:

  1. السلام عليكم ورحمة الله،
    قرأت ما يلي:
    أما مصنف الرسالة التي جاءت بهامش الكتاب فهو "ابن الشاط" وفيها يتحدث عن القواعد السنية في الأسرار الفقهية. وعلى الرغم من أهمية الكتاب والرسالة وجلالتهما، إلا أنهما لم يلقيا العناية الكافية من المحققين، حتى أن أغلب طبعاتهما قد صورت على طبعة قديمة شأنها شأن تلك الطبعات القديمة التي صدرت بلا تنسيق ولا تخريج أو تعليق، غير مشتملة على شيء من علامات الترقيم، أو تقسيم النص إلى فقرات أو غير ذلك. ولذا فقد عني "عبد الحميد هنداوي" بخدمة ما احتواه المصنف بشكل عام (الكتاب والرسالة) مستدركاً ما فات من تنسيقهما وترقيمهما وحسن إخراجهما، وضبط نصهما مع العناية بتخريج النصوص القرآنية والحديثية.

    واريد أن أستوضح أكثر حول ما قمتم به في هذا السياق.
    وجزاكم الله خيرا

    ردحذف